يعود كتاب «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض» إلى محطة أساسية من تاريخ المغرب الراهن، متسائلا عن أسباب فشل الانتقال من التناوب التوافقي إلى التناوب الديمقراطي.
لعل عبد الرحمان اليوسفي الشخصية الأكثر إثارة للفضول في المغرب الراهن. منذ اعتزاله السياسة ومقاطعته الإعلام، والجميع يتطلع لسماع روايته حول واحدة من أهم محطات التاريخ الراهن لبلادنا، تجربة التناوب التوافقي. بيد أنه ما يزال مصرا على الصمت.
اليوم بين أيدينا كتاب يطرح السؤال، تحديدا، حول الأسباب التي أدت إلى فشل اليوسفي وغيابه، والذي اختار له صاحبه الصحافي محمد الطائع، عنوان «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض». لا ينقل الكتاب تصريحات لليوسفي ولا يدعي سرد مذكراته، لكنه يؤكد أن الوزير الأول السابق واحد من الذين جالسهم أثناء إعداد المشروع. «خصني السي عبد الرحمان بشرف مجالسته في أكثر من مناسبة ولقاء»، يوضح الطائع في مقدمة الكتاب. يجوز للقارئ أن يتصور أن الكتاب، وإن لم يكن جزءا من شهادة اليوسفي، يتضمن على الأقل عناصر منها.
يبني الكتاب أطروحته على أن التناوب «التوافقي» لم يكن سوى محطة في طريق تناوب «ديمقراطي»، يفترض أن يتم بلوغه في عشر سنوات، غير أن هذا المسار «أجهض»، سنة 2002. إذا كان من الطبيعي أن تعمل الأطراف التي ليس في مصلحتها إكمال هذا المسار، على إفشاله، فإن المفارقة التي ينبه إليها الكتاب تتجلى في مساهمة أصدقاء اليوسفي في إعداد شروط الفشل. فحزب الاتحاد الاشتراكي يتحمل، حسب وجهة نظر الكاتب، جزء أساسيا من مسؤولية ما حصل سنة 2002.
ظلم ذوي القربى
يعود الكتاب إلى تفاصيل المشهد منذ وفاة عبد الرحيم بوعبيد، الزعيم التاريخي للحزب، سنة 1992، وإلى غاية مؤتمره السادس سنة 2001 وما أفضى إليه من انشطار الحزب. خلال هذه الفترة اجتمعت كل المعطيات لتجعل اليوسفي، أحد قادة الحركة الوطنية ومؤسسي الاتحاد الوطني (ثم الاشتراكي) للقوات الشعبية، في موقع ضعيف إزاء المؤسسة الملكية التي اختارت سنة 2002 تعيين وزير أول غيره، رغم التوافق المفترض مع القصر بالالتزام بالانتقال نحو الديمقراطية، ورغم تصدر حزبه نتائج الانتخابات. بمجرد توليه قيادة الحزب اضطر اليوسفي لمواجهة طموحات محمد اليازغي، الذي كان يرى نفسه الأحق بخلافة بوعبيد. لكنه ربح حياد نوبير الأموي، زعيم الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، الذي كان له وزن هام في الحزب والبلاد آنئذ. إضافة إلى شبيبة الحزب بقيادة محمد الساسي. بل إن صفه، في مواجهة أصدقاء اليازغي، تعزز بعودة محمد الفقيه البصري من المنفى.
لكن المثير أن جميع هؤلاء الحلفاء المفترضين لليوسفي، سيتخلون عنه، ليس فقط بسبب خلافهم حول المشاركة في التناوب وقبول دستور 96 من عدمه، بل لتورطهم «عن سبق وعي» أو «بكثير من السذاجة» في ما يسميه الكاتب «عملية ممنهجة لتخريب الأحزاب الوطنية» و«تفكيك الاتحاد الاشتراكي».
عشية التناوب التوافقي، يذكر الكتاب، فضل الأموي سنة 1997 استدعاء إدريس البصري، وزير الداخلية والخصم الرئيسي للاتحاديين، لافتتاح مؤتمر الكنفدرالية وحجب الرسالة التي بعث بها اليوسفي للمؤتمر. ثم مضى في مسار مواجهة عنيفة وغير متوقعة مع الوزير الأول لحكومة التناوب، منظما إضرابا عاما بتنسيق مع نقابة حزب الاستقلال، سنة 2000. لينتهي به الأمر إلى الانشقاق عن الحزب في السنة الموالية، وحرمانه من الذراع النقابي القوي الذي كانت تمثله الكنفدرالية. تماما كما اهتزت ذراعه القوية الأخرى المتمثلة في الشبيبة الاتحادية، التي انشق جزء منها مع الساسي. ثم الانقلاب المثير للتساؤلات لمحمد البصري على رفيقه في تأسيس الحزب، وفي سنوات المنفى.
هذه التطورات سهلت «استفراد جماعة اليازغي باليوسفي»، على حد تعبير الكاتب، مستعيدا تفاصيل الحروب التنظيمية والإعلامية التي شنتها عليه كل تلك الأطراف، والتي وصلت حد حذف اسمه من ورقة المرشحين للجنة المركزية للحزب في مؤتمر 2001، قبل أن يستدرك الأمر. حتى بعض الشخصيات التي لم تنخرط في الحرب على اليوسفي، داخل حزبه، واعتبرت محسوبة عليه، تخلت عنه، حين تفاوضت وراء ظهره لضمان مناصب في حكومة إدريس جطو، ما جعله عاجزا تماما عن تنفيذ قرار عدم المشاركة في تلك الحكومة، كما يذهب إلى ذلك الكاتب. «لا يخفي اليوسفي ندمه الشديد على عدم إشهار استقالته مباشرة بعد تعيين جطو، والانقلاب على المنهجية الديمقراطية، مهما كانت الكلفة السياسية لذلك، غير أن قوة البيت الداخلي الحزبي، التي اعتقد صادقا أنه يمكنه الرهان عليها لاحقا في إطار الصراع السياسي لتعديل ميزان القوة، أصبحت مجرد وهم وأطلال من الماضي بعدما تم تفكيكها بالكامل»، يضيف الطائع.
يقدم الكاتب جملة من الوقائع والاستنتاجات، التي تجعل أطروحته ذات مصداقية، فاليوسفي وجد نفسه فعلا في عزلة تامة داخل حزبه مجردا من أي سلاح يمكن أن يواجه به خروج القصر عن التوافق سنة 2002. لكنه يتجاوز، بالمقابل، ما يعتبره متتبعون آخرون أخطاء ارتكبها اليوسفي في تدبير الخلافات داخل الحزب والحفاظ على وحدته، من جهة، وفي تدبير منهجية التوافق مع القصر، من جهة أخرى. فمثلا فوت اليوسفي، في نظر البعض، فرصة سانحة لترجيح كفته في ميزان القوى إزاء القصر، حين رفض مقترح الاستقلاليين واليساريين في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، بطلب تعديل الدستور غداة وفاة الحسن الثاني. علما أن القوى اليسارية الأخرى التي رفضت التوافق قبل تعديل الدستور سنة 96، بما فيها من خرج من الاتحاد الاشتراكي، لم تستطع تحقيق أي شيء مما عجز عنه الذين اختاروا طريق التوافق.
اليمين الموحد
من خلال الوقائع التي يستعيدها الكتاب في سعيه لتحديد الأطراف التي ساهمت في «إجهاض التناوب الديمقراطي»، لن يبالغ القارئ إذا خلص إلى وجود يمين موحد في مواجهة يسار مشتت، سهل فرض الأمر الواقع على اليوسفي سنة 2002. بشكل مفاجئ عمل حزب الاستقلال، بمجرد انتخاب عباس الفاسي أمينا عاما له سنة 1998، على معارضة اليوسفي والحكومة التي كان يشارك فيها حزبه، لدرجة أن بعض أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب هددوا أمينهم العام بالاستقالة إن لم يوقف هجوماته على الوزير الأول، كما يذكر الكتاب. لا يعود الكاتب لتفاصيل الصراع بين الحزبين بعد انتخابات 2002، لكن مسار المعارضة داخل الحكومة الذي نهجه الفاسي، قد يفسر رفض الاستقلاليين المشاركة في حكومة 2002 إذا عين اليوسفي قائدها، رغم أن حزبه تصدره نتائج الانتخابات، بدعوى «آ مولا نوبة». موقف عمل الاستقلاليون على تصريفه من خلال تشكيل تحالف مع حزبي العدالة والتنمية والحركة الشعبية، قبل أن يقلب تعيين جطو، وزيرا أول، كل شيء. محاولة التحالف بين الاستقلاليين والإسلاميين ضد تولي اليوسفي الوزارة الأولى بعد انتخابات 2002، قد لا تبدو مفاجئة بالنظر للتفاصيل التي يسترجعها الكتاب حول علاقة الإسلاميين باليوسفي. يخبرنا الكتاب أن الأخير حاول «تحييد» عبد الكريم الخطيب، مؤسس «العدالة والتنمية»، «عبر إشراكه في حكومة التناوب»، لكنه فشل في ذلك. بالمقابل نجح الخطيب في «إقناع الحسن الثاني بأن إشراك الإسلاميين المعتدلين في اللعبة السياسية سيخلق نوعا من التوازن لاتقاء شر العلمانيين واليساريين». ثم سرعان ما «انقلب الخطيب على اليوسفي، كما لم يتردد العدالة والتنمية وقياديوه في شيطنة اليوسفي وحزبه، وحول الرميد وبنكيران الموقف المبدئي لليوسفي من القضية النسائية إلى «فتنة» مجتمعية، وحلبة للاحتطاب السياسي». في هذا السياق يسترجع الكاتب حديث اليوسفي، في محاضرة بروكسيل سنة 2003، عن «انتصار حزب إسلاموي هو حزب العدالة والتنمية بحصوله على عدد ملحوظ من المقاعد (في انتخابات 2002). هو الحزب الذي تنعته بعض الأوساط بـ«الحزب الإسلامي الملكي» لأن رئيسه الدكتور الخطيب كان دوما ومنذ الاستقلال أحد رجالات القصر. والسبب الذي جعل هذا الحزب يفاجئ بانتصاره يكمن في أن نتائجه في سنة 1997 قلصتها الإدارة. ثم إنه في الانتخابات الأخيرة تبنى استراتيجية ذكية بتقديم ترشيحاته في 56 دائرة فقط من أصل 91 وتركيز جهوده عليها وحث أنصاره على التصويت على الاستقلال أو الحركة الشعبية في الدوائر التي لم يترشح فيها العدالة والتنمية، من أجل مواجهة الاتحاد الاشتراكي».
قد تكون هذه القراءة مناسبة للبحث في حقيقة التقاطب السياسي في المغرب الراهن، إذ حجب التقاطب التقليدي بين أحزاب «الإدارة» وأحزاب «الحركة الوطنية»، تقاطبا ربما هو الأكثر تعبيرا عن الواقع، بين يمين ويسار المجتمع المغربي كما تعبر عنه الأحزاب التي لم تلعب الإدارة دورا مطلقا في تأسيسها.
إسماعيل بلاوعلي