شهر نونبر حافل بأيام نحتفل أو نتذكرها كأيام خالدة في تاريخنا. أولها يوم 18 نونبر، عيد الاستقلال. العيد الوطني المغربي الذي أقره الراحل الحسن الثاني، بالرغم من أن الوثائق التاريخية تثبت بأن المغرب حصل على استقلاله رسميا يوم 2 مارس .1956 ترسخ يوم 18 نونبر كعيد الاستقلال لكونه دخل التاريخ من بابه الكبير كأحد الأيام الثلاثة الخالدة التي كانت تهز مشاعر المغاربة خلال السنوات الأولى للاستقلال، ويتعلق الأمر بأيام 16 و17 و18 نونبر .1955 فيوم 18 نونبر كان يصادف ذكرى عيد العرش، يوم اعتلاء السلطان سيدي محمد بن يوسف عرش المملكة سنة 1927.
والتاريخ يسجل أن الاحتفال بهذه الذكرى مبادرة من شباب الحركة الوطنية المغربية ضدا في سلطات الحماية الفرنسية التي كانت تتجاهل الحدث وتستصغره أمام ذكرى العيد الوطني الفرنسي 14 يوليوز. وعبر نضال مرير فرض المغاربة عيد العرش كعيد وطني على المستعمرين الطغاة، وبذلك تم الالتحام بين الحركة الوطنية المغربية والسلطان سيدي محمد.
لقد حاولت سلطات الحماية الفرنسية فك هذا الارتباط العضوي، فباءت كل محاولاتها بالفشل. فقررت الإجهاز على شرعية السلطان فعزلته ونفته بمعية أسرته إلى جزيرة مدغشقر، وعوضته بابن عمومته محمد بن عرفة. وعوض أن تطفئ شعلة النضال الوطني أججتها وحولت السلطان سيدي محمد إلى رمز للشرعية والوطنية والنضال التحرري، ليس فقط بالنسبة للمغاربة، بل لمجموع شعوب المغرب الكبير، خصوصا الشعب الجزائري الشقيق.
كذا أصبحت ذكرى نفيه في 20 غشت 1953 ذكرى لتحدي الاستعمار في المغرب والجزائر على السواء. وبالرغم من أن الحكومة الفرنسية، بعد اشتعال المدن والبوادي المغربية تحت وقع عمليات المقاومة وجيش التحرير، كانت مستعدة للتفاوض مع الوطنيين على الاستقلال شريطة تجاهل السلطان المنفي، فإن الوطنيين رفضوا العرض، واشترطوا أولا وقبل أية مفاوضات ”عودة السلطان إلى عرشه”. لذلك عندما رضخت السلطات الفرنسية لهذا المطلب السياسي الاستثنائي، وعاد السلطان، تغيرت الحمولة السياسية والمشاعرية للأيام الثلاثة، فدخلت التاريخ كأيام خالدة 16 نونبر. أصبح ”عيد العودة”، 17 نونبر ”عيد الانبعاث”، يوم 18 نونبر ”عيد العرش” مع حمولته النضالية والشعبية والكفاح العسير لتثبيته منذ سنة .1933الأيام الثلاثة الخالدة ستنحت في الذاكرة الجماعية للمغاربة كذكريات مجيدة من نضال مشترك ضد الدونية والاستصغار والحجر .ولأن أبعاد هذا النضال امتدت للعمق الإنساني، فإنها تجاوزت حدود المملكة لتمتد إلى الفضاء المغاربي والعربي والإفريقي. لذلك كانت هذه الأيام الخالدة أيام تضامن حيوي مع كل الأشقاء المضطهدين وعلى رأسهم الجزائريون والفلسطينيون.
ولما انتزعت الجزائر استقلالها، احتفل المغاربة باستقلالهم الثاني، وأصبح يوم فاتح نونبر، العيد الوطني الجزائري، يوما خالدا لدى المغاربة. لقد اختلط سابقا الدم المغربي والجزائري خلال النضال المشترك من أجل الاستقلال، وبعد صيف 1962 بدأت تختلط عواطف الفرحة والاحتفال بالحرية والتطلع المشترك ”للوحدة والديمقراطية”.
آمال كبيرة عاشتها أجيال متلاحقة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن الأجيال التي ولدت منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين لم تعش، مع الأسف، إلا أجواء التوتر والتجييش المتبادل والتدمير المنهجي لكل ما هو مشترك وجميل في التاريخ العضوي والطويل بين الشعبين .فالتداخل الإثني والجغرافي واللساني والديني يؤسس لحضارة واحدة تعددت أسماؤها: ”شمال إفريقيا”، ”الغرب الإسلامي”، ”المغرب العربي” أو ”المغارب”. لقد كان التفاعل والتنقل داخل هذا الفضاء حرا وطبيعيا، حتى في عهد الاستعمار. فجاءت الاستقلالات لتفرض الحصار، بعد فترة وجيزة على الحريات والتنقلات، والتفاعلات المشتركة، فنجحت فيما لم ينجح فيه الاستعمار، أي تدمير المشترك والاجتهاد في شيطنة الأخ الشقيق.
كان بالإمكان أن يكون يوم 6 نونبر 1975 يوم انطلاق المسيرة الخضراء نحو أقاليمنا الجنوبية، ليس فقط يوما خالدا للمغاربة، بل للمغاربيين ككل، لأنه كان يوم ابتكار أسلوب جديد ومبدع لمقاومة جبروت الجيوش المدججة بالسلاح، لتصفية بقايا الاستعمار، إلا أن الحسابات الصغيرة للحكام، وعماهم الاستراتيجي، حال دون ذلك.
ليس هناك عاقل مغاربي واحد قادر على الدفاع عن الأطروحة الانفصالية. فخلق دويلة في الصحراء الغربية خطر على الشعب الجزائري قبل الشعب المغربي، ففي عهد العولمة الزاحفة لا دور للكيانات الصغيرة إلا دور السخرة والتبعية، كما أن أنه ليس هناك عاقل مغاربي واحد يجرؤ، بعد تجربة أربعة عقود، على نكران أن الوحدة الترابية والوطنية لا تتسنى بالإكراه والمقاربة الأمنية. إن الانفصال لا يهزم لا بالقوة ولا بالتجييش، بل بالديمقراطية. شهر نونبر جمع من الأيام الخالدة ما لم يجمعه شهر آخر: فاتح نونبر، 6 نونبر، 16 و17 و18 نونبر. كلها مناسبات لاستحضار لحظات نبوغ وإشعاع .إلا ان نونبر لهذه السنة تميز بتوتر عال في العلاقات المغربية الجزائرية، صاحبته انزلاقات لا تشرف المسؤولين عنها.
كنا ولا نزال نتوق إلى ”مغرب كبير” يمكننا من الفعل في العولمة من موقع الشريك وإلى ”فضاء مغاربي” تتحرر فيه الطاقات الكامنة لتعيد بناء أسس النماء والابتكار والإبداع، ولن يتسنى ذلك، في نظرنا، إلا بتجاوز ”الهويات الصغيرة القاتلة” والسعي الجماعي إلى أن تكون الصحراء ”قنطرة وصل” وليس ”منطقة فصل”. وقتها ستضاف لسجلنا الذهبي ”أيام خالدة” جديدة.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام