بالرغم من أن تاريخ العفو ودراسته يقل في حقل الكتابة التاريخية، إلا أن مظاهره لا تخفى على المتصفح لتاريخ السلطة، فسواء داخل المغرب أو خارجه، فالعفو والصفح جزء من التاريخ السياسي. في هذا الحوار، يوضح لنا المؤرخ الطيب بياض جوانب وأبعاد هذا الموضوع وامتداده المبكر مع سلاطين الإيالة الشريفة، وصولا إلى تجربة هيأة ”الإنصاف والمصالحة”.
بالنظر إلى موضوع تاريخ العفو وفلسفة الصفح، نجد كتابات أجنبية عديدة تناولت الموضوع، بينما يغيب على المستوى العربي والمغربي .لماذا في نظرك، باعتبارك مؤرخا، يغيب هذا الموضوع عن اهتمامات الباحثين عندنا؟
أعتقد أن الأمر يجد تفسيره في عنصرين متقاطعين ومتكاملين، يرتبط الأول بمدى استلهام التجارب العربية وضمنها التجربة المغربية في الكتابة التاريخية للتطورات الحاصلة كونيا على مستوى إبستمولوجيا المعرفة التاريخية، أي مدى مواكبتها لاجتهادات المدارس التاريخية العالمية، ومحطات التجديد التي عرفتها نظريا ومفاهيميا، وخاصة تدشينها لدروب بحثية جديدة سواء مع التاريخ الجديد أو غيره من الاتجاهات التجديدية .وفي مستوى ثان، نوعية الرهانات التي وضعتها الكتابة التاريخية العربية عموما والمغربية منها على وجه الخصوص، وعلى ضوئها حددت مواضيعها وسُلم أوليات الباحثين المشتغلين بصنعة التاريخ .والحصيلة أن العُدة النظرية والمنهجية ظلت شبه مفتقدة، مما أعاق التفكير في تجديد المقاربات والإشكاليات، الذي يمر في مثل هذه المواضيع عبر اشتباك منتج مع الفلسفة السياسية مثلا، لاستشكال موضوع العفو أو الصفح كآلية من آليات تدبير الصراع السياسي ومفاوضة وضعيات بين الحاكمين والمحكومين في العصور البعيدة، أو كانشغال معرفي يقود المهتمين بدراسة التاريخ الراهن إلى استحضاره في فهم تجارب حقوقية مختلفة ارتبطت بمرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية. وإذا أضفنا إلى هاذين العنصرين المرتبطين بما هو ذاتي لدى الباحثين، عنصرا آخر متصل بما هو موضوعي، أي البون الشاسع بين مؤسسات ومراكز البحث وميزانياتها لدى الآخر، وبين ما لدى الذات من فتات لتدبير بنيات بحثية بمشاريع محدودة، أدركنا لماذا في التجربة العربية ومنها المغربية لا توجد إلا فلتات قليلة عبارة عن اجتهادات شخصية لباحثين مجددين تأثروا، بشكل أو بآخر، بما راكمته الفلسفة السياسية كونيا من توماس هوبز إلى جون رولز مرورا بإيمانويل كانط.
هل يمكن أن نستشف عبر تاريخ المغرب مظاهر العفو على المستوى السياسي، بمعنى آخر: كيف كان يتعامل السلاطين أو) المخزن) ويوظفون آلية العفو في تعاملهم مع الرعية؟
كان شق عصا الطاعة أمرا لا يمكن التساهل معه، لأنه يُحدث خرقا يصعب رتقه بلغة ذلك العصر. لذلك، كان التعامل صارما مع المتمردين الذين قد تصدر في حقهم فتاوى تكفيرية، وتصفهم مصنفات الإخباريين بألقاب قدحية. لأن التمرد في هذه الحالة يكون له بُعدان أو معنيان: سياسي بمعنى خروج عن طاعة الحاكم، وديني برمزية خلع بيعة الإمام، فكان الزجر والقهر والتأديب والعقاب هو القاعدة والصفح والعفو استثناء .وهذا الأمر ينطبق على الحالات الفردية كما على الحالات الجماعية، سواء كانت بعيدة عن المركز تستدعي حَرْكات ومحلات مخزنية لرد القبائل المنفلتة وردعها، أو داخل المركز نفسه كما حصل مع انتفاض الدباغين بفاس سنة .1873 وعندما يصل التوتر والنشاز درجاته القصوى، تتحرك قوى فاعلة محليا، معتمدة على رأسمالها الرمزي لفك تعقيدات العنف المادي.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 123 من مجلتكم «زمان»