بعد مرور نصف قرن على رحيل علال الفاسي، ما تزال العديد من الأسئلة تثار حول الرجل ومساره، فهو جزء من تاريخ لا يمكن تجاوزه .في هذا الحوار، يوضح المؤرخ محمد معروف الدفالي، بحكم درايته وتمحيصه للتاريخ الراهن، جوانب من مسار الزعيم علال الفاسي في السياسة والفكر، ولماذا ما تزال راهنيته في حاجة إلى تأمل.
نلاحظ أن علال الفاسي كتب العديد من المؤلفات والأبحاث في مجالات شتى، كما خاض العديد من التجارب والمحطات السياسية والتاريخية ..لكنه لم يكتب مذكراته بنفسه، تحكي عن مساره الشخصي. لماذا في نظرك سلك علال الفاسي هذا المسلك عكس ما فعل آخرون من جيله؟
كل من يتتبع مسار علال الفاسي وتجربته في الحياة، يلاحظ كيف كان الرجل فارسا لم يترجل، ومثقفا مناضلا لم يتقاعد. فقد حرم على نفسه اللهو واللعب منذ سن الخامسة عشرة، كما عبر عن ذلك في إحدى قصائده الشعرية الأولى، ليتفرغ للاشتغال بقضايا بلده وأمته، وتوفي في الغربة برومانيا التي زارها في مهمة دبلوماسية تهم استكمال وحدة تراب المغرب. وبذلك، يكون قد نشأ في ساحة النضال وتوفي في ساحة النضال. وإذا استحضرنا أنه ولد سنة ،1910 وتوفي سنة ،1974 ننتبه بذلك إلى أنه توفي في معدل عمر نسبي، وقبل أن يبلغ مرحلة الكبر والعتي. فإذا انتبهنا إلى كل هذا وبعض غيره، إن شئنا، نرى أن علال الفاسي، لم يكن له الوقت الكافي للتفكير في كتابة مذكراته بشكل مباشر، وبالأحرى أن يتفرغ لكتابتها. هذا إذا قصدنا بالمذكرات السيرة الذاتية المباشرة التي يكتبها أصحابها بناء على الرغبة في أن يستفيد اللاحقون من تجارب السابقين. أما إذا لم نقصد هذا النوع من الكتابة أو من السيرة الذاتية، فكتابات علال الفاسي بأصنافها، بما فيها الكتابات الشعرية تحمل الكثير من ملامح السيرة الذاتية والمذكرات، ففيها الكثير حول عائلته وأصولها وعلاقة أجداده بالمعرفة والعلم والتصوف، وحول فاس مسقط رأسه، وأغلب أركان المحيط الذي عاش فيه، ومختلف أطوار تجربته النضالية الوطنية في الداخل والخارج، ومختلف آرائه ومواقفه، بشكل شبه كاف للتعرف عليه، خصوصا وأنه في أغلب كتاباته لم يكن من المتعودين من الحديث بضمير المتكلم، ولا من المتأففين في ذكر ما يراه ضمن منجزات الذات.
حدثنا كيف كانت بدايته الأولى وارتباطه بالشأن السياسي؟
علال الفاسي من مواليد سنة ،1910 كما سبقت الإشارة، وبذلك ينتمي إلى “جيل الحماية“، أو “جيل حرب الريف“، كما يسميه البعض. وهو الجيل الذي فتح عينيه على مرحلة مهمة من تاريخ المغرب المعاصر والراهن، من بين ما تُعرف به من قِبل من عاشوها، أنها شكلت إرهاصات نهضة مغربية مرتقبة، تزعمتها نخبة من المثقفين، رفعت شعار الإصلاح والترقي والبناء في أفق تجاوز الاستعمار واسترجاع الذات والحرية، فعلى يد عدد من هؤلاء، مثل محمد بن الحسن الحجوي، وأبي شعيب الدكالي، ومحمد بن العربي العلوي، وأمثالهم، درس جيل علال الفاسي بجامع القرويين، هذا الجيل الذي عمق معارفه ووعيه عبر الصحافة ومختلف الكتب التي كانت ترد من الشرق، وتُعرّف بأطوار النهضة وأطوار النضال ضد الاستعمار هناك. لقد كان هذا الجيل يؤسس لنوع من الاستعداد الذي يمكّن من مواجهة التناقض الأساس الذي شكله الاستعمار، لذا كان جيلا متتبعا لعدد من حركات التحرر في العالم، كما كان متتبعا لأطوار حركة المقاومة المسلحة المغربية بالجبال، وخصوصا منها المقاومة الريفية ومتزعمها محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي زرع الكثير من الآمال في هذا الجيل، بانتصاراته، كما رمت به هزيمة هذه المقاومة واستسلام زعامتها في أحضان النضال السياسي، وتعويض النضال العنيف بالنضال السلمي .ففي هذا السياق، تأسست جمعيات سياسية سرية في أوساط طلبة جامع القرويين، كان علال الفاسي من بين أعضائها ومن بين مسيريها، كما عملت هذه الجمعيات على تحرير صحافة خطية كانت توزع في أوساط الطلبة. وكان علال الفاسي من ضمن المؤسسين، لما يمكن أن ننعته أول جمعية سياسية وطنية سرية، تأسست بالرباط، وجمعت بين خريجي القرويين وخريجي التعليم العصري، وهي “جمعية حماية الحقيقة“، التي ضمت نخبة من متعلمي الرباط وفاس وتطوان. لقد كانت هذه المحطات بداية التسييس لدى علال الفاسي و لدى عدد من أفراد جيله.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 127 من مجلتكم «زمان»