نظمت مؤسسة «أرشيف المغرب» ومدرسة علوم الإعلام بالرباط تظاهرة ثقافية للاحتفال باليوم العالمي للأرشيف (9 يونيو). كان موضوع هذه التظاهرة «أرشيف الأحزاب السياسية المغربية». حضر لفعاليات هذا اليوم الخاص، بالإضافة إلى المنظمين وممثلي الأحزاب السياسية المغربية، بعض المؤرخين المنتمين للجمعية المغربية للبحث التاريخي، وجمهور من الطلبة الباحثين في التاريخ أو علوم التوثيق والأرشفة.
خلال ما يقارب الست ساعات تطارح الحاضرون إشكالية غياب أرشيفات حزبية بمواصفات كونية. وكان من الطبيعي أن ينطلق النقاش بنوع من الاستفزاز القاضي بجلد الأحزاب السياسية المغربية، وتحميلها مسؤولية «إتلاف أرصدتها الوثائقية». إلا أن الاستفزاز كان محركا ولم يكن مكبلا، ففتح المجال لحوار كان مثمرا على أكثر من صعيد. ونود، في مجلة «زمان»، وهي المهتمة بتاريخ المغرب، أن نضع الأصبع على بعض القضايا التي أثارها الحوار الهام.
أولا المسألة عامة. فعدم الاهتمام بحفظ الوثائق وصيانتها وتيسير الاطلاع عليها، لا يخص الأحزاب السياسية المغربية وحدها، بل يطال الدولة ومؤسساتها، والمجتمع وجمعياته، والنسيج الاقتصادي ومقاولاته، وبطبيعة الحال الأسر المغربية كبيرة أو صغيرة. هذا اتجاه عام، ولحسن حظنا يتضمن استثناءات فردية أو جماعية، مكنت من إنقاذ بعض الوثائق من الضياع. يعود هذا الاتجاه العام إلى ضعف مستوى تنظيم المجتمع، وإلى غلبة التواصل الشفوي على رابطة المكتوب. يتعرض هذا السلوك الجماعي منذ بضعة عقود لدينامية تغيير بطيئة تحت وقع إكراهات الحياة العصرية وتأثيرات العولمة والثورة المعلوماتية.
ثانيا المسألة ثقافية. فالأرشفة ممارسة اجتماعية حداثية مؤسسة على «الحق في الذاكرة»، وعلى التملك الجماعي للماضي. لذلك تستدعي واجب الحفاظ على الوثائق، وتجرم إعدامها وإتلافها بتهاون أو عن قصد وإصرار. إلا أن مجتمعنا، بكل شرائحه الاجتماعية وحساسياته السياسية، له حساباته مع الحداثة في منطوقها الكوني. فمركزية الجماعة أو العشيرة أو الطائفة، في عقلياتنا الدفينة، تتصادم مع الشفافية ومع الحق في الاختلاف. لذلك تطغى الانتقائية ويسود الإقصاء في عمليات استحضار الماضي وتركيب أحداثه. فما لا ينسجم مع خطابات المجموعات المهيكلة (من الأسرة إلى الحزب والدولة) ورموزها يدمر، أو على الأقل يغيب. هكذا تصبح الأرشيفات مصدر تهديد لشرعيات تقليدية أسست على «مسلمات» قد تتبخر إن هي قورنت بحقائق الوثائق المحفوظة.
ثالثا المسألة سياسية. فالأرشفة السليمة لا تستقيم إلا مع الحرية والحقوق المتفرعة عنها، سواء تعلق الأمر بالرأي أو النشر أو التنظيم أو التجمع… والحال أن أحزابنا عانت، خلال مرحلة الحماية أو خلال مرحلة بناء الدولة الوطنية، من حملات تضييق وقمع، بل ومحاولات اجتثاث إبان «سنوات الرصاص»، مما انعكس سلبا على أرصدتها الوثائقية. فجزء مهم منها دمر خلال حملات مداهمة المقرات الحزبية والجرائد التابعة لها، والجزء الآخر حول إلى الخزانات الخصوصية لبعض القادة. كما أن جزءا من حياة بعض الأحزاب تم في إطار السرية، وبالضرورة كانت الوثائق التي تصدرها هذه الهيئات محدودة التداول، وحفظها كان غير محبذ لصيانة سلامة الشبكات السرية. فغياب الأرشيف في هذه الحالات كان ضرورة حيوية.
رابعا المسألة علمية وتقنية. فحتى إن توفرت كل هذه الشروط الثقافية والسياسية، وهو ما لم يكتمل بعد، فإن الأرشفة ليست مسألة إرادة فقط. إذ يتعلق الأمر بعلم قائم بذاته، وبدراية مهنية لا تكتسب فقط بالحماس النضالي والوفاء الحزبي. هكذا حتى بعض المبادرات الحزبية الجريئة التي هدفت إلى صيانة ذاكرة هذا الحزب أو ذاك، لم تؤت أكلها، لكونها لم تستدع التأطير العلمي والتقني الضروري.
بعد انتظار طويل أصدر البرلمان المغربي قانونا للأرشيف. وبعد نضال شاق للمهتمين بالتاريخ والذاكرة، صدر المرسوم التطبيقي وتأسست مؤسسة «أرشيف المغرب»، وبدأت تخطو أولى خطواتها. كما أن النخب المغربية، بمختلف مشاربها ومرجعياتها الإيديولوجية، بدأت تعي الضرورة الحضارية لحفظ الماضي المشترك. إلا أنها لازالت تتردد في القطيعة مع الذهنيات المحافظة. لذلك نشدد على بعض التوصيات التي اقترحت خلال الحوار: تدعيم مؤسسة أرشيف المغرب بمنحها كل الإمكانيات الكفيلة برفعها لمستوى الأرشيفات الدولية. تنظيم دورات تكوينية للمشرفين على الأرشيفات الحزبية والخصوصية. عقد شراكات بين «أرشيف المغرب» ومالكي الأرشيفات الخصوصية لرقمنة الأرصدة الوثائقية وصيانتها مهنيا.
شعب بدون أرشيف كشجرة بدون جذور… لشعبنا جذوره، إلا أنها بحاجة إلى عناية خاصة، لتثمر غدا ليس فقط تاريخا أكاديميا، بل أيضا حداثة مغربية أصيلة.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام