تبنى أحمد المنصور سياسة قطعت مع سابقيه، وحول الخطر الداهم القادم من الشرق إلى مبرر لتحديث الدولة وتشكيل ”جيش النار” فضلا عن توجهات دبلوماسية واقعية.
ترسخت القطيعة بين الضفتين مع اكتشاف الولايات المتحدة، وفقدان بلاد المغرب لمصادر الإغراء، وازدادت ضربات الصليبين الإيبيريين عليه، وغار في ثقافة تواكلية وتمثلات غيبية. تحوّل مصدر الثقل الاجتماعي والسياسي من القبيلة، الذي كان طاغيا، ويحمل جينوم السلطة، كما في تحليل ابن خلدون، من عنصر لاحم هو العصبية، وعنصر محرك هو الدعوة، إلى الزاوية، وما ترتبط به في الغالب، بنسب شريف، وتغيرت بالتبعية الثقافة عموما، والثقافة السياسية خصوصا.
في هذا الجو المشحون، ظهرت دولة السعديين من رحم زاوية، وبرز في خضمّها السلطان عبد الملك الذي كان واعيا بضرورة التحديث، عارفا بطقوس المسيحيين، وقد حارب في معركة “ليبنت“ الشهيرة سنة 1571 إلى جانب العثمانيين، وأمضى زهاء ثماني عشر سنة من عمره في رحاب الباب العالي، وتأثر بأسلوب الدولة العَليّة وطقوسها وتشبع بها، رفقة أخيه أحمد، إلا أن المنية أعجلت عبد الملك، في معركة وادي المخازن الشهيرة، سنة ،1578 لتؤول السلطة إلى أخيه أحمد، أو بابا أحمد، من سيتلقب بالمنصور.
طول مدة حكم أحمد المنصور مكنه من إرساء نموذج متعدد الأبعاد، بدأه عبد الملك (المعتصم) وأتمه أحمد (المنصور). يقوم النموذج على مصدر شرعية شريفة، ينتسب إلى آل البيت، ويتعزز بقوة ضاربة لجيش محترف، جيش النار، على شاكلة انكشاريي العثمانيين، وعلى أداة إدارية، وطقوس، وعلى توجهات دبلوماسية يمكن أن ننعتها بالواقعية عوض الإيديولوجية، في سياق مضطرب بين قوتين من مرجعيتين دينيتين متنازعتين، الدولة العثمانية التي ترفع راية الإسلام، والدولة الإسبانية التي تحمل يافطة المسيحية. غلّب أحمد المنصور استقلالية المغرب، في جهد مزدوج لمهادنة القويتين الطامعتين في المغرب، العثمانيين والإسبان، وتوظيف التناقض بينهما.
حسن أوريد
تتمة المقال تجدونها في العدد 98 من مجلتكم «زمان»