كان صلاح حشاد شاهدا على قمع الريف في عام 1959، كما كان طرفا في محاولة إسقاط الطائرة الملكية في عام 1972، قبل أن يجد نفسه داخل معتقل تازمامارت حيث قضى 20 سنة بين جدرانه. هنا، يحكي حشاد، البالغ حاليا 76 سنة، ما حدث بدون لف أو دوران.
كنت تبلغ 16 سنة حين حكمت عليك الظروف بأن تكون، لأول مرة، في ساحة حرب. هل يمكن أن تحكي لنا عن أحداث خريبكة كما عشتها؟
وجدت نفسي، بالفعل، في ساحة معركة حقيقية. كان ذلك في شهر غشت من عام 1954 بمناسبة مرور سنة عن نفي السلطان بنيوسف. لقد شاءت الظروف أن أكون، ساعتها في مدينة واد زم، رفقة عمي لغرض يخصه. كانت هذه المدينة تعرف، عشية الانتفاضة أي يوم 19 عشت، جوا من التوتر. أحس عمي بخطورة الوضع، فقرر أن يأخذني إلى خريبكة، التي تبعد عن واد زم بحوالي 30 كيلومترا، وأن أقيم في بيت عمتي اعتقادا منه أني سأكون هناك في مكان آمن. لم تخب توقعات عمي، فقد تحولت انتفاضة واد زم إلى مجزرة حقيقية، إذ تمت مطاردة رعايا أجانب، خاصة الفرنسيين، وقُتِل العديد منهم. غداة ذلك، أرسلت سلطات الحماية، التي لم تكن تتوقع انتفاضة ساكنة واد زم، قوات كبيرة إلى المنطقة. هكذا، وفي الوقت الذي كنت أعتقد أن الوضع سيكون آمنا في خريبكة، خرجت مظاهرات حاشدة تردد بصوت واحد: “السلطان إلى عرشه”. كانت الجماهير متحمسة ومستعدة للقتال، وكانت كل الشروط ملائمة، في ذلك اليوم، لحدوث حمام دم. لقد صادف ذلك اليوم تنظيم السوق الأسبوعي، ما يعني أن الناس سيكونون أكثر من المعتاد. أذكر أني كنت في البيت، ففكرت أن أغادره للتظاهر، غير أن عمتي حاولت منعي بكل ما أوتيت من قوة، قبل أن أفلت من يديها إلى حد تمزيق قميصي، ثم وجدت نفسي في الشارع. سرعان ما أصبحت المظاهرة تتسم بعنف شديد. ما تزال ذاكرتي، إلى الآن، تحفظ صور حادثة فظيعة وقعت ذلك اليوم، لا أذكرها إلا نادرا. فقد وجد ثنائي أوربي نفسيهما في زقاق ضيق أمام حشد غاضب، عرضاهما للضرب. حاول الرجل حماية رفيقته قبل أن تسقط على الأرض، وأُجْبِر على الفرار. ثم عمد أحد الغاضبين إلى طعنها بسكين من الحجم الكبير على مستوى البطن، ومع ذلك، استمر الغاضبون في ضربها إلى أن زهقت روحها، قبل أن يعمدوا إلى حرقها. ظل هذا المشهد من الرعب يلاحقني مدة طويلة.
كيف كان رد سلطات الحماية؟
ردت بعنف غير مسبوق. فقد تحرك الجيش بسرعة، وأرسلت قوات برية مرفوقة بدبابات، بل إن حتى الطائرات شاركت في الحملة القمعية. وبدا أن خطة المعركة كأنها أعدت سلفا. وحين وصل المتظاهرون إلى الساحة المركزية الكبرى في خريبكة، كان الفرنسيون قد سبقوهم إلى هناك. ففي تلك الساحة كانت توجد ثكنات أقرب إلى أحياء الصفيح. رأيت مدرعة ترش المكان بالكيروزين قبل أن تشعل النار، ليرتفع الدخان إلى حد حجب السماء. تملكنا الخوف، ثم تدافع الجميع من أجل الفرار وإخلاء المكان. تمكنت من الوصول إلى أول زقاق على أمل أن أعود إلى بيت عمتي. في تلك اللحظة، بدأت الطائرات تقصف البيوت وتطلق الرشاش على السكان. ما زلت أحفظ صورة ذلك العجوز الذي كان على متن حماره، فقد لقي مصرعه بعدما تعرض لقذيفة. رغم الرعب الذي تملكني، فقد نجحت في الوصول إلى بيت عمتي. عندما وصلت إلى السطح، مرت قذيفة فوق رأسي بقليل. لأول مرة كدت أموت. غير أن أحداث خريبكة حببت إلي المهن العسكرية، خاصة الطيران الذي استهواني بقوته. حينها أدركت أني أريد أن أكون طيارا.
حاوره سامي لقمهري
تتمة الملف تجدونها في العدد 40 من مجلتكم «زمان»