في كل الحضارات وكل التجارب التاريخية نزوع إلى التوسع. من أجل الخيرات، ومن أجل أيديولوجيا معينة ترفع راية قيم معينة. وقد يختلف الغزو عن الفتح أو المهمة التمدينية باقتران هذه الأخيرة بما سمي من أجل تبرير الاستعمار بالمهمة التمدينية. وقد يكون السبب هو التخلص من الجيش، وإشغاله في الفتوحات، عوض الاشتغال بالسياسة.
لم يشذ المغرب عن هذه القاعدة. كان موضعا للاحتلال حينما تختل موازين القوى، وغالبا ما وقع تحت ربقة الاحتلال، بمعية بلدان المغارب الأخرى. وقع تحت ربقة روما، وقبله الاحتلال التجاري للفنيقيين، في خضم الوحدات المكونة للمغارب. ومن القيروان تم الفتح أو الامتداد العربي أو الإسلامي، وبذات الوقت شملت هيمنة فرنسا كل بلدان المغرب. قد يكون الاستثناء الوحيد هو الإمبراطورية العثمانية، ولكن ليس معنى ذلك أن الباب العالي، لم تحاول أن تُخضع المغرب، وقد أخضعت المغرب الأدنى والأوسط.
ولكن المغرب سعى، حين أسعفته موازين القوى أن يتوسع. من جهة الشرق، كان ينظر إلى الأمر، كوحدة، أو توحيد، بالنظر إلى التماثل الثقافي والاجتماعي والعقدي، وكانت المحاولة الأخيرة للتوحيد التي انطلقت من المغرب، هي التي تزعمها السلطان المريني أبو الحسن، وانكسرت حملته كما يقال في تونس، أمام أعراب بني رباح. كان ذلك مؤشرا على تغيير عميق في بنية المغارب، ودخوله إلى ما يمكن أن نسيمه بالدولة القطرية، مع الحفصيين، في إفريقية، وبني عبد الواد في تلمسان، وبني مرين في فاس. سعى السلطان العلوي محمد بن عبد لله، بالطرق الدبلوماسية، أن يوحد، أو يمتد نحو الشرق، ولكنه أخفق، لأن العثمانيين لم يسعفوه في ذلك.
لكن التوسع الحقيقي، كان نحو الشمال، أي الجزيرة الإيبرية، أو عدوة الأندلس، كما يقال. اللحظة المفصلية هي عبور القائد طارق بن زياد، ثم يوسف بن تاشفين، فيعقوب المنصور الموحدي الزقاق (مضيق جبل طارق). كانت راية التعبئة أو شحذ الجموع تتم باسم الإسلام، أو الجهاد، إلى أن وقعت الهزيمة الكبرى حينما تحالف المسيحيون، لصد المسلمين سنة 1212. كانت الحروب، كما التوسع، تتم بناء على اعتبارات إيديولوجية، دينية حينها. تعتبر هزيمة “العُقاب” (بضم العين) تحولا. اختلت موازين القوى، وأضحى المغرب في موقف دفاع. كان يمد إخوانه في العقيدة بالرجال، في عدوة الأندلس، حين تسعفه الظروف، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن لم يعد يداعبه حلم إخضاع الأندلس.
كان السلطان المنصور السعدي واعيا بهذه التقلبات. استطاع بمعية أخيه عبد المالك أن يدرأ الامتداد الإيبري في معركة وادي المخازن، وكان يدرك قوة جاره العثماني، لذلك لم يجد منفذا إلا نحو الجنوب، إلى مملكة سنغاي الغنية بالذهب. كان ذلك ما زعمه لعلمائه، الذين أثنوه عن ذلك، لأن الأسكيا، أهل مملكة صونغاي مسلمون، ولا يجوز الجهاد في المسلمين. وقد تكون الحقيقة التخلص من جيشه الذي أضحى قوة ضاربة.
طرح الموضوع ليس بهدف تبرير أي كان، ولكن فهم ظاهرة تاريخية، هي تزاوج مد وجزر.
أدرك فلاسفة الأنوار عبث الامتداد والتوسع، واعتبروا أن الوسيلة الأجدى هي التجارة، وهي التي تقي من الحروب والمحن والإحن.
لكن الفهم يفيد دوما. وسبيل الفهم المعرفة. وقد يفيد هذا الفهم في استجلاء ظاهرة تاريخية ليست حكرا على المغرب.
حسن أوريد