ماذا نعرف عن مشوار عبد الرحمان اليوسفي في السياسة والحياة؟ هذا الرجل الذي يفضل الصمت وعدم الحديث عن نفسه، وإن كان ممن شاركوا في لحظات مهمة من تاريخ المغرب الراهن. في ما يلي صفحات من سيرة “السي عبد الرحمان”، كما استقاها منه لحسن العسيبي، الكاتب الصحافي المهتم بتاريخ الحركة الوطنية. معلومات وإضاءات تنشر لأول مرة عن طفولة اليوسفي، دراسته، بداياته الأولى في النضال الوطني، ثم العمل النقابي والمقاومة، وانتهاء بمحن سنوات الرصاص.
قال عنه مرة، صديقه الكبير، المناضل والمسؤول الجزائري، الأستاذ الأخضر الإبراهيمي: «إن اليوسفي، يلوي لسانه سبع مرات في فمه قبل الكلام. وهو أشبه ببوذي، ومن الرجال الذي تتمنى النساء أن يضعن رؤوسهن على كتفه». يكاد يلخص الأخضر الإبراهيمي ببلاغة، حقيقة الزعيم الاتحادي، الوطني والمقاوم الكبير عبد الرحمان اليوسفي. فسلوك الرجل يمكن تصنيفه، بدون تردد، ضمن خانة فلسفة كونفوشيوس، المتأسسة على مبدأ “الزن” (zen) الهادئة، العالية الوقار. لعل ما يعزز مقولة تلك الشخصية الوطنية الجزائرية، أنك حين تزور شقة اليوسفي بحي بوركون بالدارالبيضاء، تكتشف أن أغلب ديكوراتها وتفاصيلها آسيوية صينية، يابانية، وكورية.
سحر طنجة
الحقيقة، إن السر كامن في الفضاء الذي تشرب فيه دروس الحياة البكر، مدينته طنجة. هناك، تشرب الرجل باكرا، معنى ثقافة الانفتاح على العالم وعلى الآخرين، بتعدد أجناسهم وثقافاتهم ودياناتهم. فيها رأى النور، يوم 8 مارس 1924، بحي الدرادب، من أبوين ينحدران من ذات القرية جنوب مدينة البوغاز. هذا يعني أن اليوسفي فتح عينيه في مغرب بدأ يعيش أهله وأبناؤه تحولات هائلة، حيث أضحى فضاء لتنافس بين القوى الكبرى في عالم نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. في هذا الفضاء تشكلت الملامح البكر لشخصية اليوسفي، التي ستطبع حياته إلى الأبد، وتؤطر سلوكه كمناضل وكرجل سياسة وكمقاوم.
كانت طنجة، عمليا، عاصمة المغرب الدبلوماسية لقرون، حيث كان يقيم فيها كل سفراء الدول الأجنبية. وكان لمنصب نائب السلطان فيها مكانة معتبرة عالية، ترقى إلى مستوى وزير الخارجية، لأنه المفاوض المؤهل من قبل السلطة المركزية لمناقشة كل القضايا الدبلوماسية مع تلك السفارات، فكانت بذلك بوابة المغرب الأكبر على العالم. وإذا أضيف إلى ذلك، أنها أهم وأول مدينة مغربية صدرت فيها صحف مغربية بكل اللغات (عربية، إنجليزية، فرنسية، إسبانية وألمانية)، ندرك حجم الأثر النافذ الذي كان للفضاء الذي فتح فيه الطفل عبد الرحمان اليوسفي عينيه، وكيف شحذت شخصيته سلوكيا بالانفتاح على كل الثقافات والأجناس والقيم. وهذا مما يغني شخصية أي فرد في فضاء تواصلي تفاعلي غني مماثل. لا شك أن كل ذلك جعل الرجل يقتنع باكرا أن كل حقائق العالم نسبية، وأن الأحكام الإطلاقية لا تقود سوى إلى الخطل والتيه. فكبر على مكرمة اليقين، أن على المرء أن لا يصدر الأحكام سوى بعد أن يقلبها من أوجهها المتعددة، حتى يقلل من أسباب الإساءة إلى الحقيقة كما هي. ها هنا، يكمن السر، في تلك الطبيعة التي ميزت اليوسفي، دوما، وهي مكرمة الإنصات، بالساعات، فيكتفي وأنت تستعرض أمامه الوقائع والأحداث، وتحاول بناء ترسانة صلبة، لإقناعه بوجهة نظرك، بأن يمسد بأصابع يده اليسرى الجزء اللين من أسفل أذنه، مكتفيا مرة تلو الأخرى، بابتسامة لا تجعلك متيقنا ما إذا كانت تعبيرا عن الرضى أم الانزعاج. مثلما أنه في الكثير من الحالات، يضع يده اليمنى على يده اليسرى فوق بطنه، مثل جالس في حضرة صوفية ويترك لك كل المساحات لتقول كلمتك، قبل أن يختار جملة قفل من كل ترسانة خطابك، ويبدأ من خلالها تفكيك بنية مداخلتك أمامه.
وكما ذكر، مرة، مسؤول كبير بوزارة الداخلية المغربية، سنة 1996، زمن الاجتماعات الماراطونية للإعداد للميثاق الأخلاقي لتنظيم الانتخابات، وتعديل القوانين المنظمة لها، كيف أنهم وهم الشباب لم يستطيعوا أبدا مجاراة الرجل في صبره وجلوسه بالساعات الطوال، يناقش أدق التفاصيل، ويتوقف عند هذه الجملة أو تلك، وعند هذا المعنى القانوني أو ذاك، إلى ساعات متأخرة من الليل. كانوا كلهم يتعبون ويضجرون ويملون، إلا اليوسفي، فهو الصلب الوحيد فيهم، والأكثر حيوية وشبابا، حتى وهو قد جاوز السبعين من عمره المديد، حينها.
في حضن العائلة
ولد عبد الرحمان اليوسفي، من أبوين ينحدران من قرية صغيرة من قرى منطقة الفحص، غير البعيدة عن طنجة سوى بـ25 كيلومترا، اسمها قرية “ظهر الريزو”. كان والده، مثل السائد في الثقافة السلوكية لأغلب العائلات المغربية حينها، رجلا مزواجا، ولقد تزوج من زوجته الجديدة، بنت قريته، فاطمة الفحصي وأنجب منها ولدهما عبد الرحمان، بعد أن عاد من رحلة هجرة قادته إلى طنجة ثم جبل طارق. فالأب أحمد اليوسفي كان غادر باكرا بيت العائلة مهاجرا إلى طنجة، وفيها تمكن من اكتساب معارف لغوية متعددة، مكنته بفضل ذكائه، في أن يهاجر إلى جبل طارق ويعمل ترجمانا بإحدى السفارات الأجنبية هناك. قبل أن يعود إلى مدينة البوغاز، ويعين من قبل نائب السلطان مولاي يوسف، الفقيه محمد بن عبد الكريم التازي، مقدما بالمدينة، مما مكنه من أن يحوز سلطة ومكانة محترمة بين ساكنتها، فأصبح مكتبه مزارا للعديد من المواطنين المغاربة والأجانب لقضاء أغراض إدارية أو للفصل في العديد من المنازعات الطارئة اليومية. كما يقول دوما سي عبد الرحمان: «والدي يعتبر عمليا من أول المهاجرين المغاربة إلى الخارج في بداية القرن 20، مثلما أنه يمكن تصنيفه بعد ذلك ضمن خانة البورجوازية الطنجية». بفضل ما كان لذلك المنصب حينها من مكانة اجتماعية ودور مؤثر ضمن شبكة التنظيم الإداري للمغرب في صيغته القديمة.
سيدفع وعي والده المديني هذا، به إلى الحرص على تسجيل أبنائه للدراسة في المدارس العصرية، مما مكن سي عبد الرحمان من ولوج المدرسة الابتدائية بطنجة، وتدرج في أقسامها حتى حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1936. أي ذات السنة التي اندلعت فيها الحرب الأهلية الإسبانية بين الجمهوريين والملكيين، وقد كانت طنجة فضاء للتفاعل يوميا مع تبعات وتطورات القضية الإسبانية. دون إغفال أثر ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، التي تم القضاء عليها باستعمال الأسلحة الكيماوية لأول مرة في تاريخ البشرية، عشر سنوات قبل ذلك.
عائليا، يحكي اليوسفي، دوما، في لقاءات خاصة معه ببيته، قصة شقيقه الأكبر عبد السلام اليوسفي، المجهول المصير إلى اليوم (تفاصيل واقعة شقيقه الأكبر هي التي دفعته في مكان ما إلى أن ينتصر دوما لحقوق الإنسان في معناها العالمي والقانوني). مما يورده سي عبد الرحمان، أن شقيقه ذاك، كان شابا منطلقا، قوي الشكيمة، جريئا، له وعي سياسي ونقابي، عازفا موسيقيا على إحدى الآلات الوترية، وأنه لم يكن يتردد في الإفصاح عن مواقفه الوطنية والسياسية. شاء القدر أن يعبر دوما عن مناصرته للحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، في أماكن عامة بطنجة، وأنه ضد كل الديكتاتوريات العسكرية وضمنها ديكتاتورية الجنرال فرانكو بإسبانيا، فالتقطته أعين البوليس السياسي الإسباني في بداية الأربعينات، حين أصبحت مدريد هي المتحكمة الأكبر في طنجة حينها، بسبب تراجع نفوذ باقي القوى العالمية الكبرى، مثل فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وتلقيها دعما كبيرا من ألمانيا النازية. كانت النتيجة اختطافه واعتقاله ونقله إلى مكان مجهول.
سنوات بعد اختطافه – كما حكى لي مرة الأستاذ اليوسفي – صادف أحد الأقارب المتعاملين مع الإسبان شقيقه عبد السلام وهو في وضعية صعبة، ضمن مجموعة من السجناء ينجزون أعمالا شاقة بإحدى الجزر الجعفرية. تأكدت العائلة لأول مرة أن ابنها معتقل عند الإسبان، لكنه كان آخر خبر يصلهم عنه وهو حي. إلى أين انتهى مصيره؟ كيف توفي وأين دفن؟. لا أحد يملك الجواب إلى اليوم. مما يجعل عائلة سي عبد الرحمان واحدة من العائلات المغربية، التي لها ابن مجهول المصير لأسباب سياسية ووطنية، منذ الأربعينات. لعل المثير، في قصة شقيقه عبد السلام اليوسفي، أن سي عبد الرحمان لم يزايد بها أبدا، على مدى مساره النضالي الحقوقي والوطني والسياسي.
شقيق آخر لسي عبد الرحمان، سيكون له أثر على شخصيته، وعلى انفتاحه على مجال الصحافة، هو شقيقه مصطفى اليوسفي، الذي اشتغل في مجال التدريس، وكان قبل ذلك عاملا في إحدى الجرائد والمطابع بطنجة. بفضل ما كان يحمله معه يوميا من جرائد مختلفة بلغات متعددة، عربية وفرنسية وإسبانية وإنجليزية، سيجد الطفل عبد الرحمان أمامه دوما مائدة دسمة وغنية من الصحف، التي كان يطل على بعض مقالاتها، قبل أن تقع حادثة طريفة كانت السبب في تحدي إدمانه قراءة الجرائد والصحافة عموما (إلى اليوم، اليوسفي قارئ نهم للجرائد والمجلات ومستمع دؤوب للإذاعات، ويفاجئني دوما بحجم معلوماته واطلاعه على مختلف المواقع الإخبارية الإلكترونية). تفاصيل الحادثة، تلك، التي رواها بتفصيل للزميل حميد برادة، تفيد أن والده، مرة في بيتهم بطنجة سنة 1936 بعد حصول اليوسفي على الشهادة الابتدائية، مر بالصدفة قربه وهو يقرأ إحدى الجرائد الأجنبية، فطلب منه أن يقرأ له بصوت مسموع المقالة التي يتصفحها، فشرع سي عبد الرحمان يتهجأ العنوان، فأخطأ في نطق اسم الجنرال فرانكو، حيث التبس عليه الأمر بين الاسم وفرنسا. فضحك منه والده، وقال له: «هل هذا ما تعلمته لتحصل على تلك الشهادة الابتدائية». أثر هذا التعليق على الطفل عبد الرحمان حينها، وقرر أن يركب التحدي ليطوع كل معلومات الصحف. وقد برع في ذلك عاليا، قبل أن يصبح واحدا من المسؤولين المسيرين لكبريات الصحف المغربية منذ 1959.
بدايات النضال الوطني
بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، شرع والده في البحث له عن منحة لإتمام دراسته الإعدادية بالمنطقة الفرنسية، وهي المنحة التي لم يحصل عليها سوى سنة بعد ذلك. كما حصل على جواز سفر يسمح له بالتنقل بين مختلف مناطق المغرب الثلاث، التي توزعها الاستعمار، وهي طنجة ذات التسيير المشترك دوليا، ثم المنطقة الإسبانية بالشمال والجنوب، والمنطقة الفرنسية بالوسط. كانت الوجهة هي مدينة مراكش سنة 1937، وهو بالكاد قد أكمل ربيعه الثالث عشر، حيث سجل بداخلية إعدادية سيدي محمد، التي قضى بها أربع سنوات حتى سنة 1942. مما يحكيه سي عبد الرحمان عن تلك المرحلة من عمره، أنها كانت فترة تفتق وعيه الوطني، بسبب الصدمة التي واجهته بمراكش جراء العنصرية الطافحة للاستعمار الفرنسي، والتمييز المشين الممارس من قبله، بين المعمرين والمغاربة. كان الأمر صدمة له، هو القادم من فضاء مغربي آخر، منفتح، وأسباب الحياة فيه أكثر سلاسة، مثل طنجة. دفعه ذلك لأن يصبح واحدا من تلامذة إعدادية سيدي محمد المتوثبين سياسيا ووطنيا فشارك في العديد من الإضرابات داخلها، وأصبح من قادة الخلايا التلاميذية بداخليتها. في تلك الإعدادية سيكون من أصدقائه ورفاقه، المقربين، تلميذ مراكشي اسمه امحمد بوستة، الذي يصغره بسنة واحدة، وقليلون هم الذين يعرفون السر في قوة العلاقة بين الرجلين، فهي علاقة وطنية ممتدة، منذ الزمن التلاميذي البكر في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي.
سنة 1942، سيغادر اليوسفي مراكش، بعد أن قاد إضرابا ضد إدارة المؤسسة، انتهى بمواجهة عنيفة مع مديرها، ليلتحق بثانوية مولاي يوسف بالرباط. وهناك ستقتنصه عين زعيم سياسي وطني شاب، اسمه المهدي بنبركة، الذي قرر جعله تحت رعايته السياسية والتنظيمية، فهو من استقطبه إلى “الحزب الوطني”، الذي أصبح ابتداء من يناير 1944 “حزب الاستقلال”، وبين يديه أدى اليوسفي القسم على القرآن للالتحاق بصفوف الحزب، ليصبح مسؤولا عن إحدى الخلايا الحزبية التلاميذية بتلك الثانوية. كانت هاته الخلية، آنئذ، تتلقى المناشير السياسية، تناقشها وتعيد نسخها وتوزيعها على نطاق واسع بين مختلف التلاميذ. بل إن أعضاءها نجحوا في ربط الصلة مع المدرسة المولوية داخل القصر الملكي الملاصق لثانويتهم، عبر باب السفراء، وشرعوا في تزويد التلاميذ داخلها بنسخ من تلك المناشير، وكان من ضمن أولئك التلاميذ ولي العهد الأمير مولاي الحسن. مباشرة، بعد تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، وما تلاها من اعتقال لقيادة الحركة الوطنية، كان اليوسفي في مقدمة مؤطري تلاميذ ثانوية مولاي يوسف بالرباط، للمشاركة في مظاهرات يوم 29 يناير 1944، التي تم التنسيق سريا لتنفيذها في كامل التراب الوطني. كانت النتيجة أحداث مدينة سلا التي سقط فيه قتلى كثر، بسبب قوة المظاهرة التي تزعمها حينها شاب آخر، رجل تعليم، اسمه عبد الرحيم بوعبيد، بتأطير مباشر من المسؤول الحزبي والوطني الكبير أبوبكر القادري. تطورت مظاهرة الرباط إلى مواجهة عنيفة مع مدير المؤسسة، انتهت بإصابته بكسر في ذراعه، ما جعل التلميذ عبد الرحمان اليوسفي يغادر الثانوية، ويصدر قرار بفصله نهائيا من الدراسة.
«طردت مع عدد من التلاميذ الداخليين من ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وأنا أهيئ للباكالوريا، بعد خروجنا في مظاهرة مؤيدة لوثيقة الاستقلال، يوم 29 يناير 1944، وحاول مدير الثانوية روكس، منعنا، فدفعنا الباب بقوة، وسقط هو أرضا وأصيب بكسر في يده. كانت تلك المظاهرة قد تمت بالتنسيق مع مدن أخرى مغربية في نفس اليوم، منها المظاهرة الشهيرة بسلا التي تزعمها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، والتي كانت بسبب اعتقال قيادة الحزب في اللجنة التنفيذية ومن نتائجها اتساع حجم الاعتقالات. بالنسبة لنا نحن في ثانوية مولاي يوسف، كان الشهيد المهدي بنبركة هو المسؤول عن تأطيرنا وبفضله التحقنا بـ”الحزب الوطني” قبل أن يصبح اسمه حزب الاستقلال»، يقول اليوسفي، قبل أن يضيف: «المهم بعد عودتنا إلى الثانوية أغلقت دوننا الأبواب وقيل لنا بالحرف: اخترتم أن تخرجوا، فابقوا في الخارج. اتجهنا بداية، وكان بيننا تلاميذ من مختلف المستويات، حتى من صغار التلاميذ، إلى مسجد السنة المجاور، قبل أن تتدخل قيادة الحزب بالرباط وسلا لتوزيع أغلب التلاميذ على عائلات وطنية عدة بالرباط وسلا. بالنسبة لي، لم يكن ممكنا العودة إلى مدينتي طنجة، لأنني لم أكن أتوفر على الفيزا. فكان أن بقيت أتنقل بين بيوت عدد من زملائي الذين كانوا معي في داخلية مولاي يوسف، أقيم عند هذا وذاك، أياما تطول وتقصر، حسب الظروف. كنت عمليا شبه مشرد (يضحك الأستاذ اليوسفي)، ولقد تجولت بين مدن أبي الجعد والجديدة وآسفي»، وفق ما حكى لي السي عبد الرحمان في إحدى اللقاءات الخاصة بشقته في الدارالبيضاء سنة 2012.
في قلب النضال العمالي
استمرت مرحلة التشرد هاته إلى غاية مطلع سنة 1945، حين قرر السي عبد الرحمان التوجه إلى المدينة العمالية الجديدة، الدارالبيضاء. هنالك انخرط في تنفيذ خطة وطنية حزبية استهدفت مواجهة الاستعمار من خلال واجهات متعددة لتأطير المغاربة وتسليحهم بالوعي الوطني وتجاوز أسباب التخلف. شملت هذه الواجهات ميادين العمل الحزبي، ومحاربة الأمية، والتخييم، والعمل الجمعوي، والإعلام، والرياضة. في إطار هذه الخطة أسس السي عبد الرحمان فريق الاتحاد البيضاوي “الطاس”.
«حين وصلت إلى الدارالبيضاء، بقيت على نفس الحال، حتى اتصل بي ذات يوم الوطني بوشتى الجامعي، وبنجيلالي بناني، والحاج محمد الباعمراني (كان موزع أفلام)، والفقيه الحمداوي، وبناصر حركات، فدبروا لي مسكنا عند المقاوم حميدو الوطني بدرب مارتيني بدرب ليهودي. اكتشفت أن عائلته تسكن في السطح، بينما وسط الدار الذي كنت أنزل به مخصص للاجتماعات الحزبية. نفس الأمر اكتشفته في بيت الشهيد إبراهيم الروداني، حيث أفراد العائلة يسكنون في السطح في حر الشمس وبرد الشتاء، ووسط الدار مخصص للنضال الحزبي والوطني. كلفت بمهمة الإشراف على خلايا عدة بدرب السلطان، وكان يسكن بجوار حميدو الوطني، المربي ورجل التعليم بوزيان، الذي ربطت به علاقة قوية. مثلما كلفت بالتوجه إلى معمل السكر كوزيمار بالحي الصناعي لتأطير العمال من خلال محاربة الأمية. اقترح العمال الأمر على مدير المصنع، فقبل، وبدأت العمل معهم في أواخر يوليوز 1944 على ما أذكر»، يستحضر اليوسفي، ثم يضيف: «شكلنا أول خلية هناك وتفرعت عنها في ما بعد خلايا متعددة. كنت أدرس أولئك العمال وكذا أبنائهم، بعد أن طلبوا مني ذلك، اللغة الفرنسية والحساب. قبل نهاية السنة اجتزت الباكالوريا الحرة في الدورة الأولى، أما الدورة الثانية فقد اجتزتها بليسي ليوطي الذي تمكنت من التسجيل فيه ونجحت، فعينت للتدريس بمدرسة حرة وطنية لا تزال قائمة إلى اليوم قرب جامع ولد الحمرا قبالة ميناء الدارالبيضاء ومقر الإقامة العامة الفرنسية (المدرسة هي اليوم مدرسة فاطمة الفهرية. والبناية هي مقر نقابة الإتحاد المغربي للشغل). ثم في موسم 1945 / 1946، أسسنا مدرسة الاتحاد إذ لم تكن في كل الحي الصناعي ولا مدرسة واحدة للأطفال، وبحثنا لها عن المعلمين، وكانت البداية هي التعاون مع فريق من معلمي مدرسة درب غلف»، كما حكى لي السي عبد الرحمان في اللقاء الوارد ذكره أعلاه.
بمناسبة استحضاره هذه الذكريات، روى لي السي عبد الرحمان قصة طريفة عن تلك الخلية الأولى التي أسست في معمل السكر كوزيمار. «قررنا أن نجعل عددا من أعضائها مخبرين لدى المراقب المدني الفرنسي الذي تم تعيينه بسوق الجملة للخضر، “مارشي كريو” (ضحك اليوسفي طويلا). فقد فطنت السلطات الاستعمارية إلى أن الحركة الوطنية بدأت التغلغل في الحي العمالي والصناعي بعين السبع والحي المحمدي، فقررت تعيين مراقب مدني خاص بالحي الصناعي مهمته تتبع ما يجري هناك يوميا بدقة. كان هو في حاجة لمخبرين لتسهيل مهمته، فاهتدينا إلى أن نجعله يختار أولئك المخبرين من بين رفاقنا، حتى نتحكم في جزء من شبكته (ضحك مرة ثانية عميقا) وكان من بينهم فقيه المسجد. فأصبحنا نحن من يتحكم فيه لأربع سنوات كاملة. لكن، بعد مدة، شك العمال أن فقيه حي كوزيمار مخبر عند المقيم العام ذاته، فطلبوا مقابلة المدير وأخبروه أنهم لم يعودوا في حاجة لذلك الفقيه، لأنهم اكتشفوا أن صلاتهم وراءه، من قبل، كلها باطلة لأنه أعزب، وأنه في الشرع الإسلامي واجب أن يكون الإمام متزوجا. فقبل المدير دفعهم الشرعي ذاك، وأكد لهم أنه سيبحث عن فقيه متزوج. اتصل ذلك المدير بالفقيه الزموري، وهو قاض أيضا بالأحباس بدرب السلطان، وطلب منه البحث له عن فقيه متزوج لإمامة الصلاة بحي كوزيمار. فسارعنا نحن بدورنا للاتصال بالفقيه الزموري ووضعناه في الصورة، فقبل. المهم بالتوازي مع ذلك، ذهب بناصر حركات، يبحث عن فقيه وطني سوسي بالمدينة القديمة يعرفه ويثق فيه اسمه محمد السوسي. لكن المشكلة أنه اكتشف أنه غير متزوج، فزوجناه بسرعة بعد أن وجدنا له بنت الناس وسارعنا بتقديمه للفقيه الزموري، الذي امتحنه وتأكد من سلامة عقد زواجه، فاتصل بمدير شركة كوزيمار وقبله في مهمته الجديدة تلك، وبقي هناك حتى بعد الاستقلال».
أول تعاضدية عمالية
في هذا الجو العمالي، يضيف السي عبد الرحمان دائما، تأسس أول إطار تعاضدي بين العمال، بما يقتضيه ذلك من إطار قانوني. «أسسنا مكتبا تعاونيا تعاضديا برئيس ونائبه وأمين المال وحساب بنكي. واتصلنا بطبيب معمل كوزيمار ليحدد لنا نوع الأمراض التي تجوز تغطيتها والتعويض عنها. وأعتقد أن هذه التعاضدية، كما أخبرت لاحقا، لا تزال قائمة إلى اليوم في معمل كوزيمار. وما أذكره في هذا الباب (ضحك الأستاذ اليوسفي قبل أن يتمم كلامه) أن خليتنا الأولى التي حكيت لك عنها في كوزيمار والتي اخترنا أن تلعب دور المخبرين عند المراقب المدني الفرنسي بمارشي كريو، نصحناها بتقديم أول شيك مالي إلى المراقب المدني ذاك من باب التضامن العمالي مع فرنسا المنهكة بالحرب العالمية الثانية، لطمأنته أكثر. وكانت قيمة الشيك تصل إلى حوالي 10 آلاف فرنك».
من مكر الصدف أن هذه المبادرة ستكون سببا في طرد اليوسفي من فضاء كوزيمار سنة 1949. «حين توصل منهم بذلك الشيك، وشرحوا له كيف أنهم أسسوا مكتبا تعاضديا بمعملهم، سألهم من علمكم هذه الأشياء؟ فقالوا له إنه فقيه شاب يعلمنا محو الأمية. فبحث عني عن طريق إدارة معمل السكر كوزيمار، وجمع معلومات عن طريق شبكة مخابراته، فقال لهم: «هذا رجل خطير على فرنسا». فقرروا طردي سنة 1949. لكن دهاء ذلك المراقب المدني، دفعه إلى أن لا يمنع تلك التعاضدية، بل احتضنها ودعمها وجعلها تابعة له. كنا في الحقيقة قد عممنا تلك التجربة التعاضدية على معامل أخرى، مثل معمل التبغ بدرب السلطان. وللتاريخ، فإننا بعد الانفصال عن حزب الاستقلال كحركة اتحادية سنة 1959، لم يتحمس الراحل المحجوب بن الصديق كمسؤول عن نقابة الاتحاد المغربي للشغل لاحتواء ذلك الرصيد الذي بني بصبر في الحي الصناعي بعين السبع والحي المحمدي، على المستوى التعاضدي، فأخذه الإخوة في حزب الاستقلال وهو النواة المركزية لتأسيسهم نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب»، يقول اليوسفي.
كان سي عبد الرحمان، يتنقل بين المدينة القديمة وحي كوزيمار، بجلبابه البلدي وطربوشه المغربي، على متن دراجة هوائية متهالكة متعبة جدا في ركوبها، بسبب نوعية عجلاتها المصنوعة من “الكاواتشو”، وهي تعبر في طرقات مرصوفة أنداك بمربعات حجرية صلبة وغير معبدة بالإسفلت. ذات يوم بسبب عبور سيارة عسكرية أمريكية، بها جنود أمريكيون تابعون للقاعدة العسكرية الأمريكية بالنواصر، سيعمل أحد أولئك الجنود على خطف طربوشه من فوق رأسه، وسيارتهم الجيب مسرعة، وهم ضاحكون، فأسقط بيده، كيف سيلج إلى ذلك الحي العمالي بدون طربوشه المغربي المعتاد. فكان قراره هو إزالة الجلباب والطربوش نهائيا، ولم يرتد جلبابا منذ تلك اللحظة إلى غاية تعيينه وزيرا أول سنة 1998 بما يقتضيه ذلك من مراسيم بروتوكولية.
بعد طرده من شركة كوزيمار، ومع حصوله على الباكالوريا بالدارالبيضاء من ثانوية ليوطي، ولأنه أصبح موضوع متابعة ورصد ومراقبة، قرر اليوسفي السفر إلى باريس سنة 1949، لإتمام دراساته العليا في مجال القانون. هناك، سيقع تحول آخر في حياة الرجل، من خلال انفتاحه على شبكة الطلبة المغاربة المؤطرة ضمن جمعية اتحاد طلبة شمال إفريقيا، التي تأسست سنة 1927، وكان مقرها في ملكية الدولة المغربية (بقي شبه مهجور منذ الثمانينات، حتى تم مؤخرا تدشينه من قبل العاهل المغربي محمد السادس، كي يصبح متحفا مغربيا بباريس). وأيضا انفتاحه على شبكة العمال المغاربة المهاجرين، التي ظلت سندا كبيرا للحركة الوطنية وللمقاومة ضد الاستعمار. حيث انخرط اليوسفي، بالتوازي مع دراسته للحقوق بالعاصمة الفرنسية، في تأطير العمال مجددا وكذا تأطير الطلبة. إلى أن تم اعتقاله في فرنسا سنة 1950، بمناسبة زيارة الملك الوطني محمد الخامس لمدينة بوردو، التي قررت جامعتها منحه دكتوراه فخرية، ضمن سياق محاولة باريس إبعاد ذلك الملك الوطني عن تنسيقه الراسخ مع نخبة الحركة الوطنية، والتي تبلورت بعض نتائجها الهامة في خطاب طنجة التاريخي ليوم 7 أبريل 1947.
أول اعتقال في فرنسا
كان اليوسفي، إلى جانب المقاوم والوطني مولاي العربي الشابي الشتوكي، مكلفا بتأطير العمال وممثلا لحزب الاستقلال بالجنوب الفرنسي، وبخاصة في مدينة سانتيتيان التي بها كثافة عمالية مغربية ومغاربية كبيرة بمناجم الفحم الحجري. في هذا النطاق، تحمل اليوسفي مسؤولية تنظيم مظاهرة احتفائية بنزول الملك الوطني محمد الخامس بميناء لاروشيل. لكن السلطات الفرنسية منعت المظاهرة بالقوة واعتقلت عددا من الطلبة والعمال المغاربة، كان ضمنهم عبد الرحمان اليوسفي ومولاي العربي الشابي الشتوكي. بعد أن بلغ محمد الخامس النبأ، رفض قبول تلك الدكتوراه الفخرية قبل إطلاق سراح أولئك المعتقلين، فأطلقت السلطات الفرنسية سراح المعتقلين، باستثناء اليوسفي والشتوكي، ليضغط الملك مجددا من أجل إطلاق سراحهما، بل إنه حرص على استقبالهما، فكان ذلك أول لقاء مباشر بين اليوسفي ومحمد الخامس. بسبب هذا الاعتقال، والتقارير الأمنية حول دوره في تأطير الطلبة والعمال، طرد اليوسفي من باريس ومن جامعتها، مما دفعه لإتمام دراسته بجامعة أخرى خارج العاصمة الفرنسية. بعد حصوله على الإجازة في الحقوق وفي العلوم السياسية، قرر العودة إلى المغرب، حيث استقر بمدينة طنجة سنة 1952، وبها فتح مكتب محاماة، بقي حتى سنة 1960، وانتخب نقيبا لهيئة المحامين بالمدينة. خلال هذه المرحلة من حياته أصبح واحدا من أهم منسقي حركة المقاومة وجيش التحرير المغربي، خاصة ضمن قيادة حركة المقاومة بمدريد، في بعدها المغربي والمغاربي، بفضل التساهل الإسباني مع تلك الحركة الوطنية المغربية، بعد القرار الخاطئ لباريس بنفي الملك الوطني محمد الخامس يوم 20 غشت 1953، والذي لم تشرك فيه الجنرال فرانكو ولا وضعته في الصورة قبل الإقدام عليه. بين طنجة وتطوان ومدريد، ولد عمليا عبد الرحمان اليوسفي آخر، هو المقاوم المحارب الشرس والذكي. أصبح الرجل بمثابة غرفة عمليات متنقلة بكل معاني الكلمة، تكمن قوته في أنه رجل فعل ميداني مسنود بمعرفة أكاديمية عالية ورفيعة، وبمعرفة قانونية جد أصيلة ودقيقة، ومتمكن من عدة لغات، الفرنسية والإسبانية والإنجليزية. وهذا بروفيل نادر ضمن جسم حركة المقاومة المسلحة المغربية وجيش التحرير المغربي، الذي كان أغلب عناصره وقياداته من العمال والحرفيين، وليس من النخبة المتعلمة حاملة الشواهد الجامعية العليا. رغم ظروفه الصحية الصعبة حينها، حيث أصيب بمرض السل مما تطلب إجراء عملية جراحية له بمدريد تمت فيها إزالة جزء كامل من رئته ليعيش باقي حياته بنصف رئة، فإن الرجل بقي رقما أساسيا ومركزيا في كل العمل الوطني للمقاومة وجيش التحرير.
هو الذي (كما ظل يؤكد مرارا في لقاءات خاصة) بدأ عمليا يبتعد بوعي سياسي وتنظيمي، في تلك الفترة عن التوجه السياسي لحزب الاستقلال. فاليوسفي، بوعيه الأكاديمي الرفيع، بوعيه الحقوقي الرصين، باحتكاكه الميداني بشرائح العمال والطلبة، كان له توجه ثوري في مواجهة الاستعمار. وهو على كل حال، الابتعاد الذي سيتواصل حتى في السنوات الأولى للاستقلال، حيث لا نكاد نجد أثرا لليوسفي في المشهد العام لحزب الاستقلال، ولم يصبح اسمه متداولا وصوره في مقدمة المشهد إلا مع تأسيس الحركة الاتحادية سنة 1959. مع تسجيل معطى تاريخي مهم، هو أن اليوسفي لم يصدر قط قرار بطرده من حزب الاستقلال بعد تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ونفس الأمر نسجله مع عبد الرحيم بوعبيد. ذلك أن قرارات الطرد التي كان يوقعها الزعيم علال الفاسي لم يحدث أبدا أن صدرت في حق اليوسفي وبوعبيد (أكثر من ذلك، سيخبرني الدكتور فتح لله ولعلو، ضمن سياق نقاش تاريخي خاص معه، أن المقر المركزي لحزب الاستقلال بباب الأحد بالرباط، لا يزال إلى اليوم في اسم الشهيد المهدي بنبركة).
في قلب المقاومة وجيش التحرير
مما أخبرني به الدكتور والعلو – في سياق آخر – أن عبد الرحيم بوعبيد سأل صديقه اليوسفي، أثناء محادثات إيكس ليبان وما بعدها، إن كان يمكن التعويل فعلا على جسم حركة المقاومة بذات الشكل التأطيري الذي تحقق في ثورة الفيتنام أو ثورة ماو الصينية، فكان جواب اليوسفي القطعي: لا. وقال له عبارة بليغة: «المقاومون لهم استعداد وحيد، هو الموت من أجل عودة محمد الخامس». في مدريد، لعب اليوسفي دورا محوريا في تنسيق العمل مع حركة المقاومة الجزائرية وجزء من نسيج العمل الوطني والنقابي التونسي، وتوطدت علاقته القوية مع كل من أحمد بنبلة ومحمد بوضياف وبن مهيدي من الجزائر، وكان صلة وصل حاسمة في كل العمليات المتعلقة بنقل السلاح وتجميعه وتوزيعه بين جيش التحرير المغربي وجيش التحرير الجزائري. لعل من الأدلة على مكانته ضمن تلك الشبكة الوازنة والهامة، هو دوره في اقتراح وتنفيذ إحياء يوم 20 غشت 1955، ببعد مغاربي، انتهى إلى ما عرفته أحداث مدينة سكيكدة الجزائرية من مجازر وكذا ما عاشه المغاربة من أحداث في وادي زم وأبي الجعد وخريبكة (الذي هو فضاء عمالي بامتياز). بل، أكثر من ذلك، كان هو صاحب فكرة إحياء ذكرى 20 غشت وإعطائها صفة “ثورة الملك والشعب”، أثناء لقاء حاسم لقيادة المقاومة وجيش التحرير بمدريد. أكد لي السي عبد الرحمان، مرة، أن مقترح الزعيم علال الفاسي كان قد جعل ذلك اليوم يوما وطنيا للمقاومة بالمغرب، لكن اليوسفي سيقدم أطروحة أخرى ذكية، اعتبر فيها أن القدر قد منح للمغاربة هدية من السماء بفضل الاستشهاد البطولي للشهيد محمد الزرقطوني يوم 18 يونيو 1954، الذي يلتقي، قدريا، مع احتفاء فرنسا بنداء الجنرال دوغول التحرري من العاصمة البريطانية لندن يوم 18 يونيو 1940، بعد احتلال النازية الألمانية لباريس وفرنسا. بالتالي، بالنسبة له، علينا جعل يوم استشهاد الزرقطوني يوما وطنيا للمقاومة (وهو الأمر الذي لا يزال قائما إلى اليوم، بعد أن رسمه الملك الوطني محمد الخامس سنة 1956، أمام قبر الشهيد الزرقطوني بمقبرة الشهداء بالدارالبيضاء)، فيما أطلق على يوم نفي محمد الخامس يوم “ثورة الملك والشعب” ببعد مغاربي.
لعب اليوسفي، أيضا، دورا محوريا في تنسيق العمل بتطوان، ضمن قيادة جيش التحرير المغربي، بدليل أنه يوم عودة محمد الخامس من المنفى في 16 نونبر 1955، كان هو بتطوان ينسق ويباشر أمور تحرك جيش التحرير بشمال المغرب دعما للتوجه التحرري الجديد الذي دشن سياسيا، ودعما للتفاوض المغربي من أجل الاستقلال الذي انطلق بباريس وتواصل حتى يوم 2 مارس 1956. مثلما أنه تدخل من مدريد، قبل ذلك لمنع تنفيذ قصاص في ممثل تلك القيادة لجيش التحرير بتطوان، المرحوم أحمد زياد. وأقنع العناصر الوطنية التي توجهت إلى العاصمة الإسبانية للحصول على الإذن بتنفيذ ذلك القصاص في ذلك الرجل الوطني، القلم الجيد الذي اشتهر بعد ذلك على أعمدة جريدة العلم، رفقة الزعيم الجزائري أحمد بنبلة، أنه ليس من مصلحة جيش التحرير أن يتخذ ذلك الإجراء ضد أحمد زياد. فتم الاتفاق على أن يأخذه معه أحمد بنبلة إلى القاهرة وهناك ستتم محاسبته. وذلك ما كان، حيث بقي تحت مراقبة المصريين، حتى توجه اليوسفي بنفسه في بداية الاستقلال لإعادته إلى المغرب سالما.
في قلب الثورة الجزائرية
بعد اختطاف الطائرة المغربية الحاملة للقادة الجزائريين الخمسة فوق سماء الجزائر، خلال شهر أكتوبر 1956، وهم في طريقهم إلى تونس لحضور قمة مغاربية كان مفروضا أن يحضرها محمد الخامس والحبيب بورقيبة، تولى اليوسفي مسؤولية الدفاع عن القادة الجزائريين بفرنسا، ما أتاح له زيارتهم بشكل دوري في سجنهم، ولعب دور تنسيقي هام ومؤثر بينهم وبين وباقي عناصر الثورة الجزائرية في الخارج، وهنا يكمن سر قوة نفاذ علاقاته بكل نسيج القيادة الجزائرية وعلى كافة المستويات إلى اليوم. لعل من المفيد، الإشارة هنا، إلى أن اليوسفي كان نصح بنبلة ورفاقه أن لا يتوجهوا مباشرة إلى تونس عبر سماء الجزائر، بل ألح عليهم بالتوجه من مدريد صوب روما، ومنها في رحلة أخرى إلى تونس. حدث مرة، أن قررت المخابرات المصرية تنفيذ عملية اختطاف أولئك القادة الجزائريين، من داخل سجنهم بالجنوب الفرنسي، وحين بلغ الأمر إلى علم قادة المقاومة المغربية، قرروا ربط الاتصال بالقاهرة لإقناع المصريين أن مثل هذه العملية لا يمكن أن تتم إلا عبر الحركة الوطنية المغربية، فتكفل اليوسفي شخصيا بالعملية. كانت الخطوة الأولى هي الحصول على موافقة المعنيين بالأمر، أي القادة الجزائريين المعتقلين، فتوجه اليوسفي إلى فرنسا وزارهم في السجن ونقل إليهم الفكرة، لكنهم رفضوها مطلقا. كانت نتيجة تلك الزيارات التي يقوم بها، وهو محام عنهم، أن طردته السلطات الفرنسية من فرنسا، بعد أن اعتقلته في القطار على الحدود بين فرنسا وإسبانيا سنة 1958 لثلاثة أيام حققت معه فيها مطولا. واستندت في قرارها هذا على قرار طرد سابق، لم ينفذ، يعود إلى سنة 1951 وهو لا يزال طالبا بباريس سنة 1950. كان القرار حينها بدل طرده من كامل التراب الفرنسي، الاكتفاء فقط بطرده من باريس وعدم السماح له بإكمال دراسته بكلياتها وانتقل، بالتالي، إلى بواتيي حيث أكمل بجامعتها دراسة الحقوق. فاستندت السلطات الفرنسية على قرار الطرد القديم ذاك، وأبعدته إلى إسبانيا، بغاية قطع صلته القوية مع قادة المقاومة الجزائرية المعتقلين عندها. علما أن اللحظة تلك صادفت في باريس أزمة ماي 1958 السياسية وعودة الجنرال دوغول إلى الحكم. علما أن اليوسفي، سيكون حاضرا بقوة في لحظة عودتهم إلى بلادهم الجزائر، بعد إطلاق سراحهم، عبر التراب المغربي، وثمة صورة شهيرة تجمعه بهم في الرباط. بل إنه هو من سيكلف الصحافي المغربي محمد باهي بمرافقة أحمد بنبلة والقيادة الجزائرية في رحلة عودتهم المظفرة إلى الجزائر المحررة، عبر وجدة، وأن يرسل من هناك تغطيات تفصيلية عن ذلك النصر الجزائري، التي نشرت بجريدة “التحرير” التي كان اليوسفي يتحمل مسؤولية رئاسة تحريرها، فيما كان مديرها العام هو رفيقه محمد الفقيه البصري، الذي سيعتقل معه سنة 1959، بسبب مقالة كتبها اليوسفي عن عدم استقبال قادة من المقاومين بالرباط، مع صورة مرفوقة بالمقال. وكانت التهمة التي فبركها المسؤول الأمني محمد أوفقير حينها، هي التخطيط لمحاولة اغتيال ولي العهد الأمير مولاي الحسن. وهي التهمة التي أظهر التحقيق القضائي أنها غير مسنودة ومفبركة، خاصة بعد إنكار الشاهد الرئيسي فيها علاقة الأشخاص الذين قدموا أمامه أمام قاضي التحقيق بأي عملية مماثلة. فتدخل شيخ الإسلام محمد بلعربي العربي العلوي، لدى الملك الوطني محمد الخامس، مما كانت نتيجته إسقاط المتابعة وإطلاق سراح الفقيه البصري واليوسفي وباقي المقاومين. مما يجدر ذكره، أيضا، عن العلاقات المتينة بين اليوسفي وبنبلة، مبادرته لإقناع إدارة مجلة “جون أفريك” بتخصيص عدد خاص لحدث الانقلاب على الأخير من طرف الهواري بومدين سنة 1965، يطالب بإطلاق سراحه. وقد نقل ذلك العدد من المجلة، عبر آلية خاصة، بأعداد كبيرة جدا إلى داخل الجزائر، عبر مدينة وجدة المغربية، فنفذت تلك الأعداد وطلب الجزائريون دفعة ثانية وصلتهم عبر نفس الآلية.
زمن الرصاص
كان اعتقال اليوسفي مع الفقيه البصري سنة 1959، أول اعتقال له في مغرب الاستقلال، لكنه لم يكن الأخير. في صيف سنة 1963، اعتقل السي عبد الرحمان مجددا ضمن ما عرف بـ«مؤامرة 16 يوليوز»، من داخل مقر الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدارالبيضاء، إلى جانب كل أعضاء اللجنة الإدارية للحزب. قبل نقله معهم، إلى المعتقل السري “دار المقري” بالرباط، حيث تعرض لتعذيب وحشي، يحكي دوما اليوسفي عن بعض تفاصيله المقززة والسادية والعبثية، والتي كان يشرف عليها أوفقير شخصيا. فقبل نقله إلى “دار المقري”، تم وضعه بزنزانة بمقر ولاية الأمن بشارع الروداني بالدارالبيضاء، رفقة صحافي شاب اسمه أندري أزولاي (الذي سيصبح مستشارا للملك الحسن الثاني ولا يزال إلى اليوم مستشارا للملك محمد السادس)، كان قد حضر لتغطية ذلك الاجتماع الحزبي إلى جانب مراسل وكالة الأنباء الفرنسية. ومما أكد لي أندري أزولاي، أكثر من مرة، أن المرحوم عبد الرحيم بوعبيد نبهه قبل دخول الاجتماع، أن أمر اعتقاله معهم وارد جدا وخيره بين المغادرة أو البقاء، فقرر البقاء، مما كانت نتيجته اعتقاله ووضعه في زنزانة واحدة مع اليوسفي ليومين كاملين. مثلما أكد لي سي عبد الرحمان مرة، أن الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي تم عبره إفشاء مخطط الفقيه البصري لصيف 1963، قد تدخل شخصيا عند الملك الحسن الثاني من أجل عدم تعذيب اليوسفي، وأيضا من أجل عدم اعتقال المقاوم مولاي العربي الشابي الشتوكي، ووعده الملك خيرا، لكن أوفقير عذب اليوسفي بوحشية واعتقل المقاوم مولاي العربي الشتوكي بمراكش.
بعد المحاكمة الشهيرة، التي طالت الآلاف من مناضلي الحركة الاتحادية سنة 1963 (يحدد عددهم في ما يقارب 5 آلاف معتقل)، سيحكم على سي عبد الرحمان بحكم موقوف التنفيذ، ثم أطلق سراحه، فيما حكم على الفقيه البصري وعمر بنجلون بالإعدام، وحكم بذات الحكم، لكن غيابيا، على كل من المهدي بنبركة وحميد برادة.
سرعان ما عاد السي عبد الرحمان، بعد هذه المحنة، للواجهة السياسية بقوة وبرز دوره أثناء ملتمس الرقابة بالبرلمان، لإسقاط الحكومة سنة 1964، حيث نجده يداوم على الحضور بمقر البرلمان ضمن صف الضيوف، ومن هناك كان ينسق ويوجه تدخلات كل النواب الاتحاديين. بعد أحداث 23 مارس 1965 بالدارالبيضاء، انطلق مسلسل سياسي جديد كان مأمولا أن ينتهي، بفضل فتح الملك الحسن الثاني لقنوات التواصل مع المعارضة، إلى تشكيل حكومة تناوب سياسية، حدد لها أفق شهر أكتوبر من نفس السنة. وكان يدير تلك المفاوضات من جهة الحركة الاتحادية كل من عبد الرحيم بوعبيد في الداخل والمهدي بنبركة في الخارج. لكن اختطاف وتصفية المهدي بباريس، يوم 29 أكتوبر 1965، وضع نقطة النهاية لهذا المشروع، ودفع اليوسفي أسابيع قليلة بعد ذلك إلى مغادرة المغرب ليبقى بالمنفى حتى سنة 1980. أصبح حينها هو محامي عائلة بنبركة ومنسق فريق المحامين طيلة شهور المحاكمة الأولى لقضية بنبركة التي امتدت حتى سنة 1967. مثلما أنه، بوعيه لأهمية ودور الإعلام، لعب دورا محوريا في جعل القضية، تصبح المادة الأولى في كل الإعلام الفرنسي والعربي والعالمي. حين تسأل اليوسفي عن حقيقة ملف بنبركة، دائما يجزم على أن الحقيقة كلها عند شخص وحيد، لا يزال على قيد الحياة، هو العميل الفرنسي أنطوان لوبيز. لكن لوبيز بالنسبة له يكذب ويتلاعب بالجميع ولا يريد الكشف عن كامل الحقيقة.
مع الفقيه البصري
خلال سنوات المنفى ستتوطد أكثر علاقة اليوسفي مع صديقه محمد الفقيه البصري، لكنه ابتداء من بداية السبعينات سيبتعد عن التوجه البلانكي الذي اختاره البصري، وستتوطد علاقاته أكثر مع عبد الرحيم بوعبيد، بدليل بعثه رسالة صوتية داعمة للتوجه السياسي الجديد للحركة الاتحادية أثناء المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يوم 11 يناير 1975 (انظر الإطار) كانت سنوات المنفى قد قادت اليوسفي إلى العديد من العواصم العربية والأوربية (الجزائر، طرابلس، بغداد، دمشق، باريس، جنيف، روما)، فيها تطورت مواقفه السياسية من التوجه المسلح العنيف إلى المجال الحقوقي، حيث انخرط اليوسفي أكثر في تأسيس اتحاد المحامين العرب وكذا المنظمة العربية لحقوق الإنسان، إلى جانب أدواره ضمن منظمة أمنستي الدولية لحقوق الإنسان، وهيئة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ما جعله يصبح مرجعا عالميا في مجال منظمات حقوق الإنسان، ومما مكنه من ربط علاقات دولية وازنة بمختلف قارات العالم، سواء ضمن الأممية الاشتراكية أو ضمن الأحزاب التقدمية والمركزيات النقابية العمالية الوازنة والمؤثرة عبر العالم.
كان لهذه الشبكة دور مؤثر في كل زياراته إلى عدد من عواصم العالم (خاصة بأمريكا اللاتينية وبالهند وآسيا وإفريقيا)، بصفته وزيرا أول يقود حكومة التناوب ما بين -1998 2002، مما أسفر عن سحب أكثر من 34 دولة اعترافها بالبوليساريو. حين عاد من منفاه سنة 1980، بعد صدور عفو ملكي أول على مجموعة من المنفيين، التزم اليوسفي بالاشتغال حزبيا تحت قيادة صديقه ورفيقه عبد الرحيم بوعبيد ولم يسجل عليه أبدا أي نزوع للتشويش على القيادة السياسية التي مثلها بوعبيد، حتى حين وجد نفسه في الواجهة الحزبية، بعد اعتقال سي عبد الرحيم وعدد من أعضاء المكتب السياسي والحكم عليهم بالسجن. وهذا واحد من عناوين شخصية اليوسفي، التي تتأسس على مبدأ الالتزام وعلى أخلاق الوفاء. فالرجل بقي دوما وفيا لصداقاته الرفاقية، حتى وإن أساء الكثير من رفاقه له. لا شك أن بقية المسار السياسي الغني للسي عبد الرحمان، بعد عودته من المنفى وإلى غاية تقديمه استقالته من قيادة الاتحاد ومن ممارسة السياسة واعتزال الإعلام سنة 2003، تستوجب نصا تفصيليا آخر…
لحسن العسبي
كاتب وصحافي، عضو مؤسس لمؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، من إصدارته “سيرة الشهيد محمد الزرقطوني”، و”مولاي العربي الشابي الشتوكي، مسار حياة مسار للمقاومة المغربية”.