يبلغ إدغار موران 98 عاما، لكنه ما يزال متيقظ الذهن والفكر، متشبثا بقناعاته التي راكمها طيلة عقود من الدراسات والتحليلات. منذ عدة أسابيع وفي زمن كورونا، وجد هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي نفسه، ككل أبناء بلاده والوافدين عليها، “سجينا” داخل بيته في مدينة مونبليي. ومع ذلك، لا يبخل على المتصلين به، من الباحثين والصحافيين، بجواب أو أجوبة حول نظرته إلى العالم وما يعيشه الآن، وما يمكن أن يتشكل مستقبلا. “زمان” تقدم، هنا، مقتطفات من الحوار الذي أجرته معه، مؤخرا، جريدة إلكترونية فرنسية.
أزمة كورونا فرصة للتغيير
“لا أستطيع التنبؤ إن كانت الأزمة الحالية ستغير وجهة نظر الناس حول العلم ، ولكن أتمنى أن نستفيد من تجربة (كورونا) لكي نسلط الضوء على تعقيد العلم، وأن نغير النظرة السابقة سواء لدى العلماء أو لدى الجمهور، لأن العلم ليس “كاتالوغ” من المسلمات اليقينية، بل هو أمر أكثر تعقيدا مما نريد أن نتصور. إنه واقع إنساني يعتمد، مثله مثل الديمقراطية، على نقاش الأفكار. على الرغم من هذا، تميل النظريات العظيمة إلى الدوغمائية. وقد كان المبتكرون العظماء يجدون، دائما، صعوبة في الاعتراف باكتشافاتهم من طرف الناس. وقد تكون هذه الأزمة فرصة مناسبة، لكي يعي الباحثون وغيرهم أن النظريات العلمية غير مطلقة كالعقائد والأديان، بل إنها قابلة للتحلل…
هذه الأزمة، التي يمكن أن نصفها بأنها أزمة الحضارة، تجبرنا على تغيير سلوكياتنا وحياتنا محليا وعالميا… وإذا أردنا أن ننظر إليها من وجهة نظر فلسفية، يجب أن نحاول الربط بين كل هذه الأزمات وأن نفكر، أولا وقبل كل شيء، في غياب اليقين… ما هو مثير جدا للاهتمام، في أزمة كورونا هو أننا ليس لدينا أية معرفة يقينية حول مصدر وأصل هذا الفيروس، أو حول أشكاله المختلفة، والسكان الذين يهاجمهم ودرجات الضرر… ولكن لدينا أيضا غياب اليقين حول جميع عواقب الوباء في جميع المجالات، الاجتماعية والاقتصادية”.
“يجب أن نستعد للكوارث”
“علينا أن نتعلم قبول الأزمات والعيش معها، في حين أن حضارتنا غرست فينا الحاجة إلى اليقين المتزايد باستمرار حول المستقبل وهو في كثير من الأحيان يقين وهمي، وأحيانا تافه… يجب أن يذكرنا مجيء هذا الفيروس بأن غياب اليقين ما يزال عنصرا بارزا ومؤثرا في وضعية الإنسان. جميع التأمينات الاجتماعية التي يمكنك التسجيل فيها لن تكون قادرة على ضمان أنك لن تمرض أو أنك ستكون سعيدا في بيتك! نحن نحاول أن نحيط أنفسنا بأكبر قدر ممكن من اليقينيات، ولكن العيش هو التنقل في بحر من الشكوك، عبر القفز عن جزر وأرخبيلات من اليقينيات…
وهذه خلاصة تجربتي. لقد شهدت العديد من الأحداث غير المتوقعة في حياتي، من المقاومة السوفياتية في الثلاثينات إلى سقوط الاتحاد السوفياتي، لكي أكتفي بهذين الحدثين اللذين كانا غير متوقعين تاريخيا. أنا لا أعيش في هاجس مستمر، ولكنني أتوقع أن تقع أحداث كارثية إلى حد ما. لا أقول إنني كنت أتوقع الوباء الحالي، ولكنني أقول على سبيل المثال منذ عدة سنوات إنه مع تدمير البيئة الطبيعية التي نعيش فيها يجب أن نستعد للكوارث. نعم، إنه جزء من فلسفتي: “انتظر ما هو غير متوقع”. فضلا عن ذلك، أشعر بالقلق إزاء مصير العالم بعد أن فهمت، وأنا أقرأ هايدغر في عام 1960، أننا نعيش في عصر الكواكب. ثم في عام 2000، أدركت أن العولمة عملية يمكن أن تنتج الأضرار بقدر ما تحمل من منافع. كما ألاحظ أن إطلاق العنان غير المنضبط للتطور التقني والاقتصادي، مدفوعا بتعطش غير محدود للربح وبسياسة نيو ليبرالية جديدة شاملة، أصبح ضارا وسبب أزمات من جميع الأنواع… ومنذ تلك اللحظة، أنا مستعد فكريا لمواجهة ما هو غير متوقع من اضطرابات”.
“منافع هذا الحجر الاستثنائي”
“من المقبول، من الناحية الإنسانية، الاعتراف بأن أخطاء قد ارتكبت وأنها ستصحح. والمسؤولية تكمن في اعتراف الإنسان بأخطائه. وقد لاحظت أن الرئيس ماكرون، في أول خطاب له عن الأزمة، لم يتحدث فقط عن الشركات، فقد تحدث عن الموظفين والعمال. إنه أول تغيير! دعونا نأمل أن يحرر نفسه أخيرا من الأوساط المالية، حتى أنه ذكر إمكانية تغيير نموذج التنمية. نظامنا، الذي يعتمد على القدرة التنافسية وعلى الربحية، غالبا ما تكون له عواقب وخيمة على ظروف العمل. ويمكن أن تساعد الممارسة الواسعة النطاق للعمل، عن بعد الناجمة عن الحجر الصحي، على تغيير الطريقة التي ما تزال بها الشركات تعتمدها في التراتبية الهرمية. كما يمكن للأزمة الحالية أن تعجل بالعودة إلى الإنتاج المحلي والتخلي عن صناعة السلع القابلة للاستعمال مرة واحدة والتي نتخلص منها بعد ذلك. وفي الوقت نفسه، ربما سوف نعيد الاعتبار للصناع الحرفيين وتجار التقسيط وكل هذه الإجراءات الجماعية هي التي يمكن أن تعيد بعض القيمة لتحسين ظروف العمل…
لقد سيطر الاهتمام الفردي على كل شيء. والآن، أصبح التضامن نوعا من الصحوة. انظروا إلى عالم المستشفيات: كان هذا القطاع في حالة من التدهور والتذمر. لكن في مواجهة تدفق المرضى، فإنه يظهر تضامنا غير مألوف. والدليل هو أن الناس يستقبلون بالتصفيق، كل مساء، أولئك الذين يكرسون أنفسهم لخدمة المرضى. ومما لا شك فيه أن هذه لحظة تقدم تستحق التنويه على الأقل على الصعيد الوطني. أنا لا أقول إن الحكمة هي المكوث في المنزل طوال اليوم، ولكن إذا نظرنا إلى تغيير نمط الاستهلاك ونوعية التغذية، فقد يكون لهذا الحجر الاستثنائي بعض المنافع، مثل التخلي عن ثقافة الاستهلاك الرديء والمضر للإنسان والبيئة .
لا يمكن أن نتحدث عن عودة التضامن الإنساني على الصعيد العالمي، ولكن كلنا بشر من جميع البلدان ومشتركون في المصير ذاته، ونحن نواجه نفس المشاكل الناجمة عن التدهور البيئي أو العيش الاقتصادي.
وها نحن نجد أنفسنا اليوم، من نيجيريا إلى نيوزيلندا، محاصرين في بيوتنا. وينبغي أن ندرك أن مصائرنا متشابكة، شئنا أم أبينا. وسيكون هذا هو الوقت المناسب لإحياء مشاعرنا الإنسانية، لأننا إذا لم ننظر إلى البشرية كأسرة واحدة، لن نستطيع الضغط على من يحكموننا لكي يتصرفوا بشكل جيد ومتجدد. صحيح أن الكثيرين منا يعيشون جزءا كبيرا من حياتهم خارج البيوت، وهذا الحجر المفاجئ يمكن أن يكون إزعاجا رهيبا. ولكن أعتقد أنه يمكن أن يكون فرصة للتأمل فيما هو تافه أو عديم الفائدة في حياتنا، ونتخلص من العادات الاستهلاكية السيئة ونعود إلى الحكمة الإنسانية القديمة التي نعرفها، لكن حاولنا دفنها في لاوعينا ونحاول ألا نغفل الحقائق والقيم الإنسانية النبيلة، مثل المحبة والصداقة والتضامن، وهي التي تمنح للحياة معناها وجودتها”.