جسد البرلمان الأوروبي بالفعل الكيل بمكيالين، من خلال التوصية التي أقرها في 19 يناير وانتقدت واقع حرية الصحافة في المملكة مطالبة إياها باحترام حرية التعبير والإعلام، وهي التوصية التي تحمل ملابساتها وظروفها وتوقيتها إشارات إلى وقوف باريس وراء ما اعتبرته المؤسسة التشريعية المغربية “استهدافا” و”ابتزازا” للمملكة”، وتندرج في خانة الاعتداءات والمضايقات التي تتعرض لها المملكة من الذين يضايقهم نمو وازدهار البلاد وحضورها القوي في محيطها الإقليمي والدولي”، كما أتبتث التوصية أن “الجهات التي تعادي المغرب داخل البرلمان الأوروبي تملك أجندة معروفة وتتجاهل حقوق الضحايا وتشكك في النظام القضائي المغربي المستقل”، ليكون بذلك البرلمان الأوروبي قد “انحاز إلى الأفراد الذين حوكموا بسبب قضايا الحق العام، وليس بسبب الآراء أو المواقف”.
ويتعلق الأمر حقيقة بتوصية تنم عن تعال وعن محاولة ابتزاز واضحة تفوح منها رائحة ريع الغاز والبترول بإيعاز من فرنسا صاحبة معايير الحرية المزدوجة، والتي تحق مساءلتها، عن حقوق الإنسان، حق التظاهر،حرية الرأي والتجمع السلمي، عن القيم الأوروبية التي يتبجّح بها البرلمان الأوروبي ويستعملها كسلاح للابتزاز والمساس بسمعة الدول،ألا تعد فرنسا مثلا الدولة الأكثر عنصرية وانتهاكا لحقوق الإنسان في أوروبا بدون منازع؟ ولنا في تعاطيها العنيف مع مظاهرات أصحاب السترات الصفراء خير نموذج ومثال.
لقد بات الكل مجمع على أنه لم يبقى في فرنسا إلا حرية المثلية، وحرية الاعتداء على الإسلام ورموزه، أما طرد الصحفيين لمجرد تحري الموضوعية كما حدث مع الصحفي ومذيع الأخبار من أصول مغربية “رشيد مباركي” الذي يعمل لصالح محطة “بي إف إم” الإخبارية لمجرد حديثه عن منتدى الأعمال بين إسبانيا والمغرب في مدينة الداخلة بالصحراء المغربية، أو ما حدث مع الموقع الإخباري ميديا بارت “MEDIAPART”، من منع للصدور بسبب تحقيق محرج لجهات معينة. نحن في المغرب بالفعل لا نملك الغاز ولا البترول لنشتري الذمم، لكن دفئ الغاز الجزائري وفي عز برودة الحرارة يجعل بعضهم لا يلتفت لما يجري في مصدره، من انتهاكات غير مسبوقة لحرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي، حيث حرية التعبير والرأي جريمة لا تغتفر حالات قمعها والإجهاز عليها لا تعد ولا تحصى وتجلياتها نطلع عليها كل صباح.
فهذا الصحفي “محمد عبد الرحمان سمار”صاحب موقع “ألجيري بارت”محكوم عليه غيابيا بالإعدام على خلفية نشاطه الصحفي، وهذا الصحفي “عبد السميع عبد الحي”رمي به في السجن لأزيد 15 شهرا بدعوى تقديم مساعدة لضابط سابق في الاستخبارات الجزائرية وهو”هشام عبود” في الفرار من الجزائر، وذاك الصحفي “هشام عبود”نفسه يتم إدراج إسمه ضمن “القائمة الوطنية للأشخاص والكيانات الإرهابية في الجزائر” والصادرة بالجريدة الرسمية بتاريخ 13 فبراير 2022،أما الصحفي المستقل والناشط في مجال حقوق الإنسان “حسان بوراس”فيحبس بسبب إجراء مقابلة مصورة حول التعذيب وفساد الشرطة وجهاز القضاء بعدما وجهت إليه تهم “إهانة رئيس الجمهورية” و”إهانة هيئة نظامية” و”تحريض المواطنين على حمل السلاح ضد الدولة وضد بعضهم” حسب المادتين 144و146 من قانون العقوبات الجزائري.
أما المدون “أمير بوخرص” الملقب ب”أمير دي زد” فيتم إدراج إسمه أيضا ضمن “القائمة الوطنية للأشخاص والكيانات الإرهابية في الجزائر”المشار إليها،أما الصحفي “محمد تامالت” فيلقى حتفه مضربا عن الطعام في الجزائر العاصمة طيلة الشهرين الذين قضاهما في السجن بسبب نشر مقالات اعتُبرت مسيئة لسياسيين، كما أن محكمة سيدي امحمد في الجزائر العاصمة لم يفتها الحكم على الصحفي الجزائري “إحسان القاضي” مدير “راديو أم” وموقع “مغرب إيمرجون” المستقلين بالسجن،كما حبس الصحفي “بلقاسم حوام”عن يومية “الشروق” بعد نشر أخبار عن رفض شحنةتمور جزائرية بعد تصديرها بسبب معالجتها بمبيدات محظورة، وحكم بالسجن عشر سنوات في حق مالك مجموعة النهار الإعلامية الخاصة “أنيس رحماني” واسمه الحقيقي “محمد مقدم”، بتهمة الفساد.
خالد درارني” مراسل مراسلون بلا حدود و TV5 Monde في الجزائر ومؤسس موقع Casbah Tribune. لم يسلم بدوره من السجن عامين بتهمة “التحريض على التجمهر غير المسلح” و”المساس بالوحدة الوطنية”.
سعيد بودور” و”نور الدين التونسي”، صحفيان معتقلان وجهت لهم ثلاث تهم واهية وهي “إهانة هيئة نظامية” بناءً على المادتين 144و146 من قانون العقوبات و”التشهير” حسب المادتان 296 و298 و”الابتزاز” حسب المادة 371، فضلا عن الصحفي “عبد الحكيم ستوان”، الذي جرت محاكمته بعد أن وجهت له أربع تهم وهي “التشهير” و”الابتزاز” و”التعدي على الخصوصية” و”نشر أخبار كاذبة”، وقد التمس وكيل الجمهورية تنفيذ عقوبة 18 شهرا سجن نافذة في حقه.
ولعل آخر المهازل وتجليات الانتهاكات الحقيقية لحرية الصحافة إيقاف الصحفي “سعد بوعقبة” البالغ من العمر 77 سنة، لا لسبب سوى لأنه انتقد من خلال عموده “نقطة نظام” حالة اللاتوازن بين الجهات في الجزائر من حيث النماء وفرص الاستثمار.
وللتذكير فقط فإن الجزائر احتلت المرتبة 134 (من بين 180 دولة) في ترتيب منظمة “مراسلون بلا حدود، في تصنيفها الجديد وفقا لمؤشر حرية الصحافة العالمي، ولكن تبقى كل تمظهرات الانتهاكات والقمع مبررة ومفسرة مهما تجاوزت فداحتها المدى ومهما كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بحرية التعبير وحرية الصحافة، لأن شجرة الغاز والبترول قادرة على إخفاء غابة التجاوزات والمس بالحريات.
أما في ما يتعلق بالنشطاء السياسيين فحدث ولا حرج، فقد خلقت السلطات الجزائرية لائحة ترهب من خلالها كل من يتجرأ على تسمية الأمور بمسمياتها في الجزائر الجديدة، وهكذا تم على سبيل المثال لا الحصر إدراج اسم “محمد العربي زيتوت” مؤسس حركة رشاد، ضمن “القائمة الوطنية للأشخاص والكيانات الإرهابية في الجزائر” والصادرة بالجريدة الرسمية بتاريخ 13 فبراير 2022، وكذلك إدراح اسم “فرحات مهني” رئيس الحركة من أجل تقرير مصير منطقة القبايل (ماك)، بذات القائمة.
كما تم إدراج إسم الأستاذ “رشيد مصلي”وهو محام، وناشط سياسي، ضمن نفس القائمة إلى جانب كل من “فرحوح حنافي”، و”لورغيوي يوغرطة”، و”بلعباسي براهيم”، و”مراد يتيم”، و”مرزوق عبد الرحمان”، و”مخيوبة يحي”، و”دهينه مراد” المعروف بـ”عمار”، و”منصري منار”، و”عباس عروة”، و”مكي دواجي إبراهيم”، وطبودراع رضا” المعروف باسم “تقي الدين”، و”رشيد مسلي”، واللائحة طويلة ضمن نفس قائمة الأشخاص والكيانات الإرهابية.
أما عن الاغتيالات داخل السجون والقتل بالإهمال فتبقى أشهرها الوفاة المشبوهة لمعتقل الرأي “حكيم دبازي” الذي توفي عن 55 سنة وهو أب لثلاثة أطفال بحيث وجد ميتا في ظروف غامضة في سجن القليعة، غرب العاصمة الجزائرية. ولا يزال نحو 260 شخصا على الأقل في السجون بالجزائر حاليا بسبب الاحتجاجات أو لقضايا تتعلق بالدفاع عن الحريات الفردية بحسب منظمات حقوقية.
إن على فرنسا، التي كان حزب رئيسها ماكرون وراء التوصية اليائسة وعبأ لها بشكل كبير،أن تفهم بأن زمن أفول نجمها في مناطق نفوذها التقليدية قد بدأ، فهي بعد أن فشلت في مالي، وتغيرت نظرة الأفارقة لها والذين باثوا يعتبرونها دولة استغلال واستنزاف لمقدراتهم وخيراتهم، وسبب عدم الاستقرار الاقتصادي وأحيانا السياسي لمجموعة من دولهم، ها هي اليوم تعمل، من حيث تدري أو لا تدري، وبشكل مجاني، على خسارة، حليف موثوق به يشكل عامل استقرار حقيقي، وكل ذلك بسبب نظرتها المتعالية وإحجامها عن التعاطي بمنطق الشراكة عوض منطق التبعية والبرهنة على أن المغرب فعلا شريك استراتيجي عبر عدم معاكسة مصالحه العليا وعدم التلكؤ في الاعتراف الواضح والصريح بوحدته الترابية، وعدم الالتفاف والاستمرار في تلك الشطحات التي لا يمكن أن تزعزع المغرب قيد أنملة.
عبد اللطيف أيت بوجبير- ناشط حقوقي ومحامي