في خطابه الأخير أمام اللجنة المركزية أسابيع قليلة قبل وفاتـه، تحدث عبد الرحيم بوعبيد عن المسار الجمعي لحركته، فيما هو يتحدث أيضا عن مساره الشخصي، بكلمات بسيطة أرادها نوعا من الاعتراف بنسبية الأشياء في السياسة، كما في الحياة.
كان في تلك اللحظة يرى من المسافة التي وضعها المرض بينه وبين الحياة، بطولات الكفاح الوطني، ومقاومة الاستبداد، والنضال من أجل التقدم والحرية والديمقراطية، وكان يمكن أن يستخلص لنفسه هذا المجد المؤكد لينسحب به منتشيا بالرضى عن النفس ولكنه فضل الحديث عن الصواب والخطأ الواردين في كل عمل إنساني، وعن الاعتراف بأنه «مهما يكن فإن كل ما فعلناه خرج من صميم الفؤاد».
ولـعـل هذه الجملة التي تبدو عاطفية ومختارة بعناية لمقام «خطبة الوداع»، هي التي تلخص إلى حد بعيد أسلوب الراحل عبد الرحيم بوعبيد، فقد كان مناضل قناعات ثابتة، ومفاوضا دائما على الممكن، يرفض «منطق كل شيء أو لا شيء»، ويرفض «الأمر الواقع» كأسلوب في تدبير الحياة العامة، يحتمل الخطأ والصواب في كل عمل سياسي، ويرجح دائما نسبة الصواب مهمـا كانت محـدودة للإبقاء على الباب مفتوحا أمام المستقبل، وأكثر ما كان يعذبه إنسانيا وسياسيا هـو انسداد الأفق، وأكثر ما يلهـب ذكاءه السياسي هو ظهور فجوة في الجدار، ومع كل هذه الواقعية التي تستند إلى حس براغماتي، وإلى حاسة سياسية تلتقط الإشارات التاريخية وتوظفها، فإنه لم يكن «رجل حسابات»، كان في قناعاته، وفي صراعاته، وفي لغته وخطابه، شيء يخرج من صميم الفؤاد ولعل ذلك ما يعطي لصوته نبرة خاصة عند مخاطبيه تستدعي الإنصات والتأمل حتى عندما لا يصادف ذلك اتفاقا معه على الرأي أو تسليما لـه بالصواب .ومن المؤكد أن عبد الرحيم، الذي اشتغل في مناخ سياسي اتسم دائما بالانغلاق والتكتـم ومناورات الدوائر العليا، قد وجد نفسه أحيانا كثيرة لا يقول كل ما يعرف ولا يعبر عن كل ما يعتقد، وربما اعتبر في بعض الأحيان أن الخروج من المأزق السياسي يقتضي نوعا من المرونة والتنازل، الشيء الذي عرضه لنقد شديد اللهجة خصوصا من قبل بعض أصوات اليسار التي كانت تدعو إلى نوع من القطيعة الثورية مع النظام ولا تعتبر عبد الرحيم بوعبيد زعيما قادرا على إحداث هذه “القطيعة“.
محمد الأشعري
تتمة المقال تجدونها في العدد 99 من مجلتكم «زمان»