شهد المغرب منذ نهاية القرن 19 ظهور حركات احتجاجية، اختلفت مظاهرها ومطالبها. في هذا الحوار، يوضح لنا الأستاذ الباحث في التاريخ، خالد أوعسو، أسباب ومآلات أهم الانتفاضات والاحتجاجات التي عرفها المغرب، بدءا من انتفاضة الدباغين سنة 1973ومرورا بانتفاضات ما بعد الاستقلال، وصولا إلى فترة الانتقال الديمقراطي وتجربة العدالة الانتقالية..
هل يمكن أن نحدد في البداية، الفروقات بين المصطلحات المستعملة حول ”تاريخ الاحتجاج في المغرب”، ما بين : التمرد والانتفاضة والثورة؟
بداية أشكر المجلة وطاقمها على اختيار مواضيع يتمفصل فيها التاريخي بالراهني، وهي قضايا تستدعي انفتاحات على مختلف مجالات العلوم الإنسانية. جوابا عن السؤال، فإن الأمر يتعلق بمفاهيم تتسم بالتداخل فيما بينها، كما تتسم بهشاشة الحدود بين الفاعل داخلها (المبادر للحدث) أو المستهدف من الحدث أو الذخيرة المستعملة (الموارد المعبأة) أو الآثار المترتبة، وأيضا درجة حضور العامل الخارجي (دول، منظمات..)، بل وحتى على مستوى الزمن؛ بمعنى أن نضفي على حدث ما أحد المفاهيم السالفة في لحظة فورانه، لكن قد نعطيه توصيفا آخر بعد بروز مآلاته. عموما، يقصد بالتمرد فعلٌ عنيف يتخذ عدة أشكال، أعلاها الفعل المسلح، وله غاية هو استهداف كل سلطة. إنه رفض للعلاقات ومرتكزات شرعية النظام. باختصار، التمرد هو الموقع المعادي والهادف إلى إلغاء من يمارس الهيمنة. أما الانتفاضة، فما يميزها هو الطابع العفوي وعنصر المباغتة، وترتبط بكل الفئات، كما أنها تكون محدودة على مستوى المجال والزمن .وبخصوص الثورة، فهو مفهوم أشيع وأضفي عليه حمولة خاصة في الأدبيات اليسارية، ولو أنه يرجع في الواقع إلى فترات زمنية بعيدة، وهو ما نجده عند بعض المهتمين بقضايا الفلسفة السياسية (حنا آرنت…)، حيث الثورة عموما تحيل إلى الطابع الجذري للتغيير، الذي يطال البنى الاجتماعية وكل امتداداتها لصالح أخرى تتوافق مع منظومة الثورة ومرجعيتها. ولأن الثورة تنزع إلى استبدال شرعية بأخرى، فإنها تبني منظوراتها على رسم معالم إيديولوجيتها في مواجهة أخرى قائمة. خلاصة القول إن الحدود مرنة بين المفاهيم على الأقل من زاوية ثلاث عناصر: أولا هي قضية العبور بين هذه المفاهيم بالعلاقة مع درجات الوعي، فهل يكفي وجود وعي حسي (الشعور بالظلم، عدم التجاوب…)، أم أن الأمر يستدعي حضور وعي مؤطر ومهيكل كفيل بالتمييز بين كل هذه الحراكات الاجتماعية؟ ثانيا: الحاجة إلى التمييز بين المنطلقات/ المرجعيات التي عادة ما تكون مثالية في لحظات البداية وقاسما مشتركا بين كل هذه المفاهيم، وبين التحولات التي تطال هذه المنطلقات والتي تترتب عن سيرورة كل احتجاج ومؤشرات نجاحه، حيث عادة ما تحضر الواقعية، هذه الأخيرة التي قد تنتج بدورها معارضيها، لنكون في بعض الأحيان أمام ثورة/ تمرد من داخل ثورة / تمرد. ثم ثالثا: أهمية العامل الخارجي في الدفع بالأحداث.
لماذا يعتبر المؤرخون أن انتفاضة الدباغين سنة 1873 من أبرز الأحداث، ومؤشرا أولا لظهور الاحتجاجات لاحقا في المغرب؟
الاتفاق في مجالات البحث في العلوم الإنسانية صعب مثله مثل التعميم في الأحكام. الأمر في رأيي له علاقة بالمفاهيم والسياق الذي أنتجها. الأكيد أن المجتمع المغربي عرف ردود فعل اتجاه من يحوز السلطة، وشمل ذلك كل المراحل، لكن ربما المستجد هو خصوصية القرن التاسع عشر الذي تميز باتساع مجالات التدخل الأوربي ومعها فقد المغرب تدريجيا سيادته الترابية والقضائية (المحاكم القنصلية) والمالية (الغرامات)، الأمر الذي رتب وضعية التفقير المصحوب بالإحساس بعجز المخزن أمام الأجانب، وهو ما دفع هذا الأخير إلى التسلط على الرعايا. ما يهم أن انتفاضة الدباغين بفاس تعلقت هذه المرة بفضاء المدينة، وارتبطت بحرف شكلت العمود الفقري للبنية التجارية فيها. فالمعلوم أن تدبير المدينة ارتبط عمليا بقائد مخزني مقابل جبايات. لكن أزمات القرن التاسع عشر بدأت ترخي بظلالها خاصة في فترات انتقال العرش حيث تتقاطع كل مظاهر الأزمة، وهو ما حصل مع انتفاضة فاس التي بلغت حد نهب دار أمين الأمناء “بنيس“، وقد كان الهدف المعلن إلغاء ضريبة المكوس، وهو ما تم الاستجابة له أولا قبل معاودة فرضها ثم العودة للاحتجاج، بل والمطالبة بعزل ممثلي المخزن الفاسدين، ما جعل المطلب الاقتصادي يتمفصل مع مطالب “سياسية“، لكن السلطان قضى على الانتفاضة، وفرض عقوبات على أهل فاس. ولعل هذا الحسم وهذه الصرامة ترجع إلى لحظة بداية السلطان تقلد زمام السلطة والتي تستدعي الحزم خاصة مع أهل الحرف، لأهميتهم ولحاجة السلطة إلى موارد، وأيضا إلى اقتران الانتفاضة بالمدينة حيث يحضر الضبط بحكم تمركز السلطة وسهولة التنقل مقارنة مع شساعة المجال داخل البادية، وأخيرا لرغبة السلطان في تأطير أي فعل احتجاجي لاحق ضمن دائرة الآليات التقليدية (الاستعطاف، الاستعانة بالأعيان)… وداخل حدود معينة لا تطال مجال ممارسة السلطان لاختصاصه.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 135 من مجلتكم «زمان»