تكشف دراسة النقود وسكّها جوانب دفينة لتاريخ الإمبراطوريات والحكام والملوك في كل ربوع العالم. وقد عرف المغرب بدوره سك النقود مبكرا، منذ زمن الممالك الأمازيغة إلى الآن .في هذا الحوار، يحدثنا المؤرخ والخبير في النميات ”علم المسكوكات” عبد الرحيم شعبان، عن تاريخ العملات النقدية بالمغرب، ويكشف لنا جوانبها السياسية والاجتماعية منذ بدايتها، وصولا إلى الدرهم المغربي الحالي.
قبل التفصيل في الموضوع، وباعتبارك متخصصا في تاريخ النقود، نريد منك أن توضح لنا، بشكل عام، مدى أهمية دراسة تاريخ العملات النقدية؟
علم المسكوكات القديمة أو علم النميات “La numismatique” مشتق من الكلمة اللاتينية Numisma“” وتعني مسكوكة أو قطعة نقدية. وهو علم يعنى بدراسة العملات القديمة، لذا فهو يعتبر من العلوم المساعدة لعلم التاريخ، وهو مفيد بشكل خاص في البحث في التاريخ القديم والوسيط وكذلك الحديث، ويعتبر من الوسائل التي يعتمدها علم الآثار باعتباره أداة ومعيارا للتأريخ. وبصرف النظر عن صيغتها العلمية، تعتبر النميات أو المسكوكات القديمة من الأدوات القيمة لهواة جمع العملات. ويعتبر جمع النقود من الهوايات التي ظهرت منذ العصور القديمة. وبالنسبة لغالبية الجماعين، الاهتمام التاريخي بالمعنى الدقيق للكلمة هو أمر ثانوي، إذ أن اهتمامهم منصب أساسا حول أغراض التخزين أو حول أغراض أخرى تقنية أو فنية أو ثقافية. ومن أجل تلبية احتياجات سوق الهواة والجماعين، وهو تخصص دقيق إلى حد ما، صاغت النميات القديمة مفاهيمها الرئيسة. وفي سياق التدابير البديلة، أبدى كثير من المستثمرين وبعض المؤسسات المالية اهتماما متزايدا بقطاع النميات كمجال استثماري مدر للأرباح. وعن أطوار تقدم علم النميات، يعتقد أن أولى النصوص التي كرست للعملة من المنظور النقدي تعود إلى 1514 بإيطاليا .وفي ،1834 ولدت أول دورية مخصصة للعملات المعدنية في ألمانيا ثم في فرنسا سنة بعد ذلك ثم في المملكة المتحدة. ركزت الدراسات الأولى بشكل شبه حصري على العملات القديمة اليونانية والرومانية قبل أن تمتد إلى عملات العصر الإقطاعي الأوربي ثم إلى العملات الإسلامية. غير أن توسيع دائرة الاهتمام لضم جميع العملات وجميع العصور، لم يتم إلا في عام .1899 أما من حيث الأهمية، تكتسي المسكوكات القديمة قيمة خاصة، باعتبارها أحد المصادر التاريخية الهامة الموثوق بها لدراسة تاريخ المجتمعات والأمم، فمن خلالها يمكن الاطلاع ومعرفة البنية السياسية والدينية والعقائدية التي سادت مجتمعا ما خلال حقبة زمنية معينة، كما أنها تكشف لنا جوانب متعددة من المظاهر الحضارية والفنية والإدارية إلى جانب بعض الجوانب الاجتماعية التي يمكن اعتبارها مدخلا لدراسة ذهنية ذلك المجتمع. وتعتبر النميات الإسلامية ذات قيمة توثيقية ومعلوماتية غاية في الأهمية لما تحمله من كتابات ورسوم وزخارف، لذا فهي تعد بحق مصدرا مهما من مصادر التاريخ والآثار والحضارة، وهذه الميزة التي اختصت بها المسكوكات الإسلامية هو ما دفع عالم النميات الأمريكي جورج س. مايلز إلى القول بأنه لا يوجد حقل في التاريخ خدمته مسكوكاته بالقدر الذي خدمت به المسكوكات الإسلامية التاريخ الإسلامي.
إذا أردنا أن نتحدث عن البدايات، يتبادر إلى ذهننا السؤال حول ما قبل استعمال العملات النقدية؛ هل يمكن أن تقدم لنا صورة عن نمط عيش الشعوب قبل ظهور النقود؟
قبل نشأة النقود ومعرفتها كوسيلة للتعامل، استخدمت المجموعات البشرية الأولى نظام المقايضة كوسيلة للتعامل لتأمين احتياجاتها، حيث تشير الدراسات التاريخية والأثرية إلى استخدام الصينيين القدماء لمادة المحار والأصداف البحرية كسلعة وسيطة في تسيير معاملاتهم التجارية اليومية، في حين تشير العديد من الدلائل إلى قيام الغالبية العظمى من الشعوب القديمة، باستخدام الرقيق والعبيد، هذا إلى جانب اعتماد بعض الشعوب إلى مبادلة منتجاتها من المواد الزراعية بأخرى حيوانية أو صناعية. وفي أوربا، دأب الناس على تقدير ثروتهم بعدد رؤوس الماشية، فليس من الصدفة أن تكون كلمة “ “Pécuniaireوتعني النقد، مشتقة من الكلمة اللاتينية “ “Pecusالتي تعني قطيع، هذا بالرغم من أن الماشية لم تكن الوسيطة الوحيدة المعروفة آنذاك. غير أن تفاقم الصعوبات الناجمة عن عدم إمكانية تقسيم المواد الوسيطة المستخدمة في المقايضة، دفع الإنسان إلى التفكير والبحث عن سلعة وسيطة أخرى، تكون أصغر حجما، وأقل كلفة في الحفظ والتخزين، حيث ما لبث أن ظهرت الحاجة إلى أدوات أنسب للتبادل فبرزت أهمية الذهب والفضة لميزتهما العالية، فعلاوة على توافرهما نسبيا، يتميز معدنا الذهب والفضة بعدم قابليتهما للتآكل، كما يتميزان بإمكانية صياغتهما وتجزئتهما ونقلهما أيضا بكل سهولة. وقد شاع استعمال هذين المعدنين النفيسين خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد عندما استعمل الذهب بمصر والفضة ببلاد الرافدين كمقياس لتحديد القيم، بحيث أنهما لم يتجردا من صفتهما تلك، ليصيرا نقدين ذوي قيمة وظيفية خلال القرن السابع قبل الميلاد حين ضرب أحد ملوك ليديا أول عملة من الإلكتروم، وهو مزيج طبيعي من الذهب والفضة، اشتهرت تحت اسم الستاتير.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 120 من مجلتكم «زمان»