ما تزال قضية الخلاف بين المغرب والجزائر تتخللها العديد من الأسئلة والإشكالات المبهمة، فالبعض يربطها بفترة الاستعمار الفرنسي للجزائر بينما يرى آخرون أنها مرتبطة بمرحلة ما بعد الاستقلال. في هذا الحوار، يضع المؤرخ المتخصص عكاشة برحاب يده على الجذور التاريخية للتوتر القائم بين المغرب والجزائر، ويرصد أهم المحطات التي أججت العلاقة بين البلدين اليوم.
في البداية، كيف يعالج المؤرخون الجزائريون تاريخ المغرب بشكل عام والقضايا المشتركة بشكل خاص؟
إن فحْص نظرة المؤرخين الجزائريين لتاريخ المغرب يقتضي التمييز بين الفترات التاريخية المدروسة، وأيضا بين المؤرخين الجزائريين القدامى والمعاصرين، فالفترات السابقة لعصر دولة الموحدين المغربية التزم خلالها جل المؤرخين الجزائريين بالموضوعية التي يتطلبها البحث العلمي، لكن برزت مغالطات في دراسات تاريخية منذ حكم الدولة المذكورة. وبهذا الصدد، يُستعمَل مصطلح “الدولة المُومْنية“ عوض “الدولة الموحّدية“ مثلا، وعِلة ذلك في نظرهم أن المؤسس الحقيقي لهذه الدولة هو عبد المؤمن، الذي ينتسب إلى مدينة نَدْرُومَة الواقعة في شمال غرب مدينة تلمسان، فالمؤرخ توفيق المدني – وهو عُمدة المؤرخين الجزائريين – يقول الآتي في هذه النازلة: «بُويِع البطل الأكبر والإداري الحكيم عبد المؤمن بن علي الكَومي، خليفة المهدي محمد بن تومرت، …وكان عبد المؤمن جزائريا من مدينة نَدْرُومَة، تولى عن استعداد أمْرَ الدولة الفتية، وقادها بقوة الإيمان ومتانة العزيمة إلى النصر والفلاح، فحطمت دولة المرابطين تحطيما».
ومن الملاحظ أن بعض المؤرخين الجزائريين المعاصرين يتحرّجون في استعمال مفهوم “المغرب” “Le Maghreb” في أبحاثهم عن الحقبة الوسيطية، لأن استعماله قد يحيل على اسم المغرب
“ “Marocفي ذهن المتلقي، خصوصا في اللغة العربية، وهذا أكبر دليل على خضوع البحث في حقل التاريخ لسياسة الدولة الجزائرية تجاه المغرب، وبذلك فهُم يحيدون عن الموضوعية وقواعد البحث العليمي الرصين. وتميّزَ بعض المؤرخين الجزائريين باندفاع كبير لما تطرقوا لقضايا تاريخية مشتركة، دون تروّ وتبصُّر والتزام بقواعد البحث العلمي؛ ففي معالجة قضية الأمير عبد القادر الجزائري والسلطان عبد الرحمان بن هشام، أصدروا أحكاما بعيدة عن الحقيقة التاريخية، وتطاولوا على سلاطين المغرب. وفي معالجة قضية مماثلة تخص السلطان عبد العزيز والشيخ بوعمامة في مطلع القرن العشرين، اعتبروا سلطان المغرب متواطئا مع الحكومة الفرنسية، بينما كان بوعمامة في نظرهم مقاوما سار على درب الأمير عبد القادر، وخصُّوه بدراسات وأبحاث تاريخية عديدة، بينما تكشف الوثائق المغربية والأرشيف الفرنسي تعاونه مع السلطات الفرنسية بالجزائر لتسهيل احتلال شرق المغرب في مطلع القرن العشرين. أما عن الفترة المعاصرة فحدّثْ ولا حرج عن انحيازهم لسياسة بلدهم تجاه المغرب، خصوصا ما يتعلق بتاريخ الصحراء الشرقية وواحاتها المترامية الأطراف، والتي كان أعيانها يقدمون البيعة لسلاطين المغرب بشكل منتظم، إلى أن سقطوا تحت نير الاستعمار الفرنسي، وقِسْ على هذا المنوال جل الأبحاث التاريخية الجزائرية المتعلقة بالحدود وبحرب الرمال وبالصحراء المغربية المسترجعة. وبذلك افتقدت تلك الأبحاث المصداقية التاريخية، وصارت إلى حد كبير بمثابة أعمال دعائية لسياسة بلدهم تجاه المغرب، وإلى يومنا هذا تقع صدامات بين الباحثين المغاربة والجزائريين في الملتقيات العلمية الدولية الخاصة بالتاريخ المشترك بين البلدين.
بحكم تخصصك، ما رأيك فيما يخص الأزمة التي تفجرت بين المغرب والمقاومة الجزائرية بزعامة الأمير عبد القادر في منتصف القرن التاسع عشر، وما مدى تأثيرها في الذاكرة الجماعية هنا وهناك؟
من السهل على القارئ العادي رصْد أبعاد متعددة لشخص الأمير عبد القادر في الذاكرة الجماعية هنا وهناك، فهو قليل الحضور في الذاكرة الجماعية المغربية، ويُستحضَرُ عادة مقرونا بعهد السلطان عبد الرحمان بن هشام، والوعيُ بشخصيته محصورٌ بين الباحثين والمتخصصين. بينما ظلت تحتفظ به الذاكرة الجماعية في الجزائر، نظراً لما يُنشَر في شأنه من دراسات تاريخية، والعناية به في تنشئة الأجيال عبر الكتاب المدرسي، الذي خصّه بحيّز وافر في المقررات والبرامج الدراسية، وهناك بُعدٌ آخر يخص علاقة الأمير بالدولة المستعمِرة التي حاربها، وهي فرنسا، وهنا يدخل التوظيف السياسي للذاكرة.
ومن جانب آخر، فإن الذاكرة الجماعية بالجزائر رسخت تاريخ العلاقة بين السلطان عبد الرحمان بن هشام والأمير في أذهان أجيال متتالية، ولكن بصورة سلبية قاتمة قد تزرع الكراهية والحقد بين الأجيال الناشئة في البلدين. كما أن الاحتفاء بمنجزاته بشكل منتظم ورسمي وإحياء ذكرى ثورته كل سنة، رسّخ اسمَه في الذاكرة الجماعية الجزائرية، وزاد في تجذرها ما يثار في الإعلام الجزائري بشأنه كلما وقع توتر بين المغرب والجزائر. وهذا هو عيْن التنافر بين الذاكرة الجماعية هنا وهناك. ومما عمّق الهوّة وزاد من حدّة التوتر هو تشبث الجزائر المستقلة بخط الحدود الموروث عن الفترة الاستعمارية.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 128 من مجلتكم «زمان»