ما لا يدركه العديد من المتحدثين في موضوعات حساسة جدا مثل العفو، والصفح، والغفران، أن أمر الاختلاف أو الاتفاق، حول معانيها وحول ما يرتبط بها من إشكالات عملية بالأساس، ليس مجرد مسألة لغوية أو حتى فلسفية غارقة في التجريد…
هكذا، كنت أعتقد ومنذ ما يقارب ثلاثين سنة، وهكذا صرت أعتقد أكثر مذ جرى اختطافي مرتين وأنا ابن العشرينات من عمري .المرة الأولى حين أوقفوا الباخرة التي كنت على متنها وأنا أتوجه إلى فرنسا لإكمال دراساتي في سلك الدكتوراه في علم الجمال عند الفيلسوف الألماني “هيغل“، أما المرة الثانية فلقد أجبرتني الشرطة على تسليم نفسي بعد أن ضيقت على عائلتي، معتقلين الوالد الذي قد بلغ من العمر عتيا…
على سبيل البسط، فلقد حدث لي مرات عديدة أن حكيت لأبنائي عن بعض من جحيم التعذيب الذي عشته، وعن مغامرات الصبر والصمود بدافع البقاء، والانتصار للحياة حتى أعود وأستكمل مع الرفاق معارك السياسة القاسية للتغلب على الاستبداد …ومن ضمن ما حصل لي، أن قلت لهم إن الحظ “اللاهوتي“ هو في الغالب ما أنقذني من صدف الموت العبثي التي تكون قد تجاوزت أعدادها العشرات من المرات في ضيافة الدهاليز السفلى للبوليس السياسي لبلدي آنذاك…
وإني لا أغالي في ذلك، فلقد كان “عطر“ الموت يحوم بين غرف الإقامة المظلمة وبين مكاتب الاستنطاقات المذلة للكرامة البشرية، فقد يحصل لك بسبب أي إجهاد يتعرض له جسدك المنهك أن يختارك ملاك التعذيب لترحل وإلى الأبد …وحتى لا يهرب خيط فكرتي مني، أعيد القول إن أي حديث عما سبق وجرى طيلة سنوات الرصاص لا يأخذ بعين الاعتبار “درجات عنف“ هذه المرحلة وإحباطاتها القاتلة، وفرصها الضائعة والتي كان جزء كبير منها ممكنا أن يفتح البلاد على إقامة توافقات دائمة لبناء دولة متوازنة العدل وحارسة على قيامه دون الحاجة إلى كلفة الدم المهدور والزمن المغدور…
اليوم، ومن جديد أتذكر تلك الاجتماعات الأولى التي بادرنا ولأول مرة إلى تنظيمها على الصعيد الوطني، وقد جمعت العديد من أطياف ضحايا القمع السابقين منذ الخمسينات حتى التسعينات؟ نعم أتذكر كل ذلك وأستعيد روح الحوارات الأولى التي صار “ضيوف الرصاص“ يطرحونها على أنفسهم في عشارية، ستفتحنا نهايتها على تجربة سياسية بين الملك الحسن الثاني، وخصمه التاريخي القديم عبد الرحمان اليوسفي، والذي سيتكلف بالمسؤولية الأخلاقية لانتقال مسؤولية الملك إلى ابنه الذي لم يكن الرأي العام يعرف عنه سوى أنه ربما كان يقتسم مع ضحايا معارضات أبيه أجزاء من المحنة ذاتها…!!
في بعض من الأوراق “الذاتية“ التي أعود لتفحصها باستمرار عن تلك المحطات التاريخية، نستطيع من زوايا إخبارية متعددة أن نلمس كيف أخذ ضحايا المحنة السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال يعودون إلى حاضرهم ويقرأون تركيبات تناقضاته وتنوع مشكلاته، بل وحتى الكلام عن سيناريوهات تغييراته، وطبعا، بارتباط مع ملفهم الذي كانت الحركات الحقوقية تعتبره «حجة ثقل الماضي على الحاضر»، وبالتالي فلا مجال لبلورة فكرة مقاربة سليمة لبناء مرحلة جديدة مستقبلا إلا باستعادة هذا الماضي المؤلم بكل جروحه المشهورة، ومجابهته بشجاعة (أخلاق/إيتيقا) الذي يستعرض شريط خروقاته وكبائره كمسؤولية مادية أو معنوية، ويقتسم الدموع مع ضحاياها الباقين وأهاليهم وذويهم…
لا أخفي أنني عشت، (أولا كإنسان، وثانيا كمناضل)، هذا السياق بحمى سياسية فلسفية، حاولت عبرها وسط نهر الرفاق أن أشد على الخيط الناظم، الذي ينبني عليه منطق السياسة المبدئية (أو العلمية أيضا)، والذي يقول إن على المصارع، من أجل التغيير الديمقراطي، أن لا يتنازل في النضال لتوفير ضمانات حاضر آمن ومستقبل أكثر أمانا. لكنه من الواجب عليه أن لا يغلق الباب على جسامة الماضي واستخراج الدروس منه، كي تتحول إلى سياسة عمومية متعاقد عليها وطنيا، وكي لا يعود البلد إلى الوراء بسياسات أخرى غير متصالحة…
في العديد من لحظات ما سيسميه بعض الرفاق بطريق البحث عن عدالة انتقالية لمغرب العهد الجديد، كان سؤال “الأخلاق“ بالمعنى الكانطي يخز أضلاعي والمنطقة المضمرة في سيكولوجيتي…
فكنت أعيد صياغة السؤال الشقي المرتبط بمعادلتي النسيان والذاكرة على الشكل الذي صاغه بها فيلسوف التفكيك والاختلاف جاك ديريدا، وهو يتابع الحوار الوطني الجنوب إفريقي بقيادة مانديلا بعد سقوط نظام الميز العنصري، فكنت أخاطب نفسي بصوت مرتفع قائلا: هل النسيان فعلا يلغي الذاكرة ويعزز قوة السياسة؟
وهل اتفاقات هذه السياسة بعد خروقات الماضي تلغي التاريخ وتلغي الوفاء للراحلين ولاتفاقات الماضي؟
ثم هل من الممكن أن تقوم البلاد ببناء مستقبلها دون تخوف إذا ما عاد الأسوأ في السابق ليجهز على المكتسبات المسجلة في سجل الحاضر العابر، بفعل مجرد تغير في حجم ميزان قوى قوة ما كانت قد خفضت الرأس مؤقتا فقط، حتى تنزل لحظتها من سماء مجهولة فتعيد أركان العهد القديم؟
في متابعة النصوص التفكيكية لفيلسوف الإنشاد لملاحم التسامح، تعرفت على وقع الكلمات في براديغمات السياسة والحقوق، فاكتشفت أن الأمر لا يتعلق البتة بالتنازع بين مصطلحين مصطلح فعل النسيان ومصطلح فعل التذكر والذاكرة في أصولهما الطبيعية الإنسانية الأولى، بل إن جوهر ولب القضية هنا والمقصود منها هو سياسة النسيان وسياسة التذكر والذاكرة، مما يجعل المتأمل في هذا الباب الصعب ينتقل من النظرة الأخلاقوية التجزيئية الفردية إلى نظرة تاريخية تضعنا في قلب العلاقة بين الدولة كسلطة من جهة، و المجتمع كموضوع لإرادة الدولة كخيار استراتيجي لا كتدبيرات تكتيكية… فأن ينسى الفرد فليس أمرا ماكروسكوبيا، كما لو أن الدولة اختارت النسيان ووضعت له خططا واقتصادا قطعيا يقطع مع التذكر الجماعي لا كفعل فردي هامشي عاطفي، بل كفعل طبقي أو وطني أو فئوي منظم ومشحون بالرجوع إلى رأسماله الرمزي، كما يقول بيير بورديو…
وها نحن اليوم نجيل بعيوننا للوراء لنرى ما سرنا إليه، بعد أن كنا قبل خمسة وعشرين سنة نطالب بالعفو وإطلاق سراح ما تبقى من المعتقلين، لنمر بعدها لتأسيس منتدى الحقيقة والإنصاف ببلورة مشروع المصالحة المشروطة بقول الحقيقة ورفع الحجاب عن أهوال وكوارث الماضي، فتدخل الدولة في عهدها الجديد، وما آلت إليه الأمور حتى الآن وانحباس سقوف الأوضاع في السياسة والاقتصادوالإعلام والحقوق…
فهل نجحنا في المرور إلى منطق السياسة دون تصفية الحساب مع ماضينا؟ أم حصلنا على مكاسب جزئية شريطة سياسة النسيان؟
عبد الرحيم تفنوت
تتمة المقال تجدونها في العدد 123 من مجلتكم «زمان»