كيف ظهر مدعو النبوة بالمغرب؟ وما هي السياقات التي جعلتهم ينتشرون في فترة معينة دون غيرها؟ وما هي وسائلهم لإقناع الناس بدعوتهم؟ ثم ما الفرق بينهم وبين مدعي المهدوية؟ هذه مجموعة من الأسئلة وغيرها يجيب عنها الباحث المتخصص في تاريخ المغرب خلال العصر الوسيط محمد العمراني، ويوضح لنا ثنايا الموضوع وإشكالاته.
إذا نظرنا إلى البدايات الأولى لانتشار الإسلام بالمغرب نجد أن هناك أناسا ادعوا النبوة (صالح بن طريف، حاميم، ابن أبي الطواجن…). هل يمكن أن توضح لنا ما طبيعة دعوة هؤلاء ومعنى ادعاء النبوة؟
لا بد في البداية من الإشارة إلى أن مصدر المعلومات المتوفرة عن هؤلاء الأشخاص الذين ادعوا النبوة بالمغرب، وخاصة خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة، قد جاءتنا بواسطة مؤلفات غير مغربية، وفي الوقت نفسه متأخرة نسبيا عن زمن قيام هؤلاء المتنبئين .ذلك أن أول إشارة مصدرية حول ظاهرة ادعاء النبوة قد أخبرنا بها الجغرافي المشرقي ابن حوقل من العراق خلال القرن العاشر الميلادي من خلال كتابه “صورة الأرض“، وبعده البكري من بلاد الأندلس في القرن الحادي عشر الميلادي في مؤلفه “المسالك والممالك“ .فكانت بذلك روايتهما حول حركة المتنبئين بالمغرب مصدرا لكل الكتابات الوسيطية التي جاءت في مرحلة لاحقة.
ودون الدخول في نقاش حول مدى صدق ادعاء هؤلاء المتنبئين، أو مدى مصداقية هذه النصوص، فإن الأمر في تقديرنا أن الذاكرة الشعبية المغربية الوسيطية ظلت محتفظة بأخبار دعوة هؤلاء الأشخاص كما تداولت سيرتهم وما شرعوه من قوانين، وما قاموا به من طقوس دينية ألزموا بها أتباعهم ومعتنقي ديانتهم. دليلنا فيما ذهبنا إليه أن أخبار هؤلاء المتنبئين ظلت حاضرة بثقلها إلى مراحل متأخرة من العصر الوسيط، وذلك من خلال نصوص مغربية للقرن الرابع عشر الميلادي عند كل من ابن أبي زرع في كتابه “روض القرطاس“، وابن خلدون في كتابه “العبر“ .إن استمرار تداول المعلومات عن هؤلاء الأدعياء طيلة العصر الوسيط يدفعنا إلى التساؤل عن سر استمرارية هذا الحضور، والذي لا نجد له إلا تفسيرا واحدا هو غرابة ما روي عن أدعياء النبوة، وما روجوا له من ممارسات وطقوس دينية. فاستمرارية هذه الأخبار تؤكد لنا مدى تجدرها في الذاكرة وفي المخيال الشعبي المغربي مما يدل على مدى قوة وقعها وصمودها في وجه كل الاتجاهات المذهبية التي حاولت التقليل من قيمة أصحابها والنيل منهم والتشهير بهم.
لماذا في نظرك انتشر المتنبئون بكثرة في تلك الفترة التي عرفت بعصر الإمارات المستقلة؟
في الواقع من الصعب أن نساير الرأي القائل بانتشار المتنبئين بشكل كبير بالمغرب، سواء تعلق الأمر خلال عصر الإمارات المستقلة خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، أو تعلق الأمر بالعصر الوسيط ككل. ذلك أن أعدادهم ظلت محدودة، غير أن ما يعطي الانطباع على أن حركة المتنبئين قد تحولت إلى ظاهرة خلال عصر الإمارات المستقلة، هو تناسل الأخبار في عدة نصوص مصدرية وسيطية حول القبائل التي احتضنت هؤلاء الأشخاص الذين ادعوا النبوة، وذلك من خلال سرد روايات تميزت بإثارة قضايا لها علاقة بالسحر والكهانة والحكي الغرائبي، سواء تعلق الأمر بقبائل برغواطة في تامسنا التي عرفت ظهور دعوة صالح بن طريف، أو تعلق الأمر بقبائل غمارة التي تنبأ فيها حاميم.
ومع ذلك، يمكن تفسير العلاقة بين ظهور حركة المتنبئين هاته، وبين قيام الإمارات المستقلة، ذلك أنه بعد اندلاع ثورات المغاربة ضد الخلافة الأموية منذ سنة 121 هجرية، وما ترتب عنه من استقلال المغرب وفك ارتباطه بالتبعية السياسية لبلاد المشرق الإسلامي، كان من الضروري البحث عن خلق بدائل سياسية لتجربة التبعية للخلافة الأموية بالمشرق، فبدأ التفكير في تأسيس كيانات سياسية ارتبط كل واحد منها بمجال قبلي معين وبزعيم مذهبي أو زعامة روحية أو متنبئ، فكانت إمارة برغواطة في تامسنا أولى هذه الإمارات التي نشأت مبكرا منذ سنة 122 هجرية بقيادة طريف بن ملوك والد صالح الذي أعلن نبوءته سنة 127 هجرية. إن إعلان النبوة كان محاولة من صالح بن طريف للحفاظ على تماسك البنية القبلية لبرغواطة من خلال فرض الزعامة الدينية داخل أوساط هذه القبائل من مصامدة السهول الأطلسية، وذلك تبعا للنظرية الخلدونية القائلة بأن «الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين، إما نبوة أو دعوة حق». ولذلك، يكون انتشار حركة المتنبئين وقيام الإمارات المستقلة له ما يبرره على الأقل من خلال ظهور دعوة صالح بن طريف.
حاوره غسان الكشوري
تتمة المقال تجدونها في العدد 125 من مجلتكم «زمان»