يستحيل الحديث عن الحي المحمدي دون الحديث عن فريق “الطاس”، واحدة من الفرق المرجعية في تاريخ الكرة المغربية التي طالها النسيان، وأعاد الفوز بكأس العرش لها الاعتبار. “زمان” تعيد نبش تاريخ فريق الحي.
كرة القدم، في مدينة الدار البيضاء، قبل أن تكون حكاية صراع وندية بين الأندية هي كذلك قصة رومانسية. و”كازا” كما يحب أهلها والوافدون عليها تسميتها ليست، فقط، للغريمين التقليديين الوداد والرجاء، فالمدينة شهدت كذلك ولادة واحد من الفرق المرجعية والتاريخية التي طواها النسيان لعقود قبل أن تنبعث من الرماد مؤخرا كطائر الفينيق بمناسبة نهاية كأس العرش الأخيرة.
إنه “الطاس” فريق الحي، وهذا الحي ليس مجرد محل للسكنى، فهو الحي الذي خرج منه العباقرة، الحي المحمدي الذي فيه ولدت مجموعة ناس الغيوان ومجموعة لمشاهب وأجيال من الفنانين الموهوبين واللاعبين المهرة، والمناضلين الصادقين والشعراء الذين عذبتهم الأسئلة. هو الحي الذي يبالغ أهله في تقديسه حد “الأسطرة” حتى كاد الحي يتحول إلى ما يشبه “حالة اعتقادية” عند المنحدرين منه، و”الطاس” فريق المقاومة والعمال كان وما يزال رغم أفاعيل الزمان جزءا من هذه الحالة، إنه أكثر من مجرد فريق.
فريق المقاومة
تنبه الوطنيون مبكرا إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه الرياضة عموما وكرة القدم خصوصا في استقطاب الشباب للعمل السياسي والنضالي ضد الحماية، فتأسست العصبة الحرة سنة 1946 على يد بعض الشخصيات الوطنية يتقدمها عبد الرحمان اليوسفي وعبد السلام بناني وأحمد اليزيدي. وكان تأسيس هذه العصبة يهدف بالأساس إلى مناهضة عنصرية العصبة الفرنسية لكرة القدم، وقد عمل القائمون على هذه العصبة على تنظيم مباريات في كرة القدم من أجل الحصول على كأس العرش، وهو ما أزعج سلطات الحماية التي كانت ترى في هذه الأنشطة عملا سياسيا بغطاء رياضي.
وفي هذا السياق، تأسس فريق الاتحاد البيضاوي الرياضي في “كريان سنطرال” على يد جماعة من الوطنيين والعمال المتيمين بكرة القدم. وفي الواقع، ما يزال التاريخ الدقيق لتأسيس النادي مثار جدل بين المؤرخين. فجريدة “العلم”، مثلا، أفادت في مقال لها سنة 1967 أن الفريق برز إلى الوجود سنة 1944، أي قبل تأسيس العصبة الحرة. حيث تكونت نواة من الوطنيين، مثل امحمد العبدي وعبد الكبير عارف الخياطي وعبد السلام بناني والعربي الركراكي، وقامت باستقطاب بعض الشباب من أبناء الكاريانات وتنظيمهم لتكوين فريق حر لكرة القدم بالحي المحمدي، كان الهدف من ورائه وضع غطاء لتحركات أفراد المقاومة، والتستر على أنشطتهم، واجتماعاتهم، مما يسهل عليهم حرية التنقل عبر تراب المملكة، تحت الغطاء الرياضي. وكان العربي الزاولي من ضمن هؤلاء الشباب، إذ كان لاعبا ومكلفا بتدريب اللاعبين، وهو الذي سبق له لعب كرة القدم في فريق “الكوك” وهو فريق مستقل أسسه الإسبان.
لكن التاريخ الأكثر شيوعا لتأسيس النادي يبقى سنة 1946، أي تاريخ تأسيس العصبة الحرة وانخراطه فيها، حيث بدأ يشارك الفريق في المسابقات التي تضم فرقا مغربية فقط، وقد كان الفريق خلال أشهره الأولى مكونا من لاعبين هواة معظمهم منحدرون من الوسط العمالي، من بينهم: سكارين، الحسين الدليمي، العربي الكوشي، محمد العوينة، بن المجدوب وآخرون.
وتشير معظم الروايات، كذلك، إلى مساهمة عبد الرحمان اليوسفي في تأسيس النادي الذي ما يزال مشجعا وفيا له، وقد تابع بحماس من منزله المباراة النهائية لكأس العرش التي قادت الفريق إلى أول تتويج في تاريخه. «في سنة 1946، طلب مني الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي هل أنا على استعداد للذهاب بفريقي الرياضي إلى طنجة للمشاركة في مباراة حبية واستعراضية، فوافقت على ذلك. وفعلا، ذهبنا بالفرقتين الأولى والاحتياطية التين كانتا تضمان 30 شخصا، واتصلنا بالسيد مصطفى الخمال المسؤول على الكشفية هناك وشاركنا في المباراة ضد فريق طنجة ثم كذلك في الاستعراض الذي قامت به الكشفية»، يروي امحمد العبدي أول رئيس للنادي والذي كان حينها عاملا في شركة الإسمنت “لافارج”. في بداية الخمسينات، اضطر الفريق الذي لم يكن يستفيد من أي دعم من مدينة الدار البيضاء بحكم انتمائه إلى العصبة الحرة إلى الانتساب إلى عصبة المغرب التابعة للجامعة الفرنسية لكرة القدم.
حصل ذلك بعد منع أنشطة حزب الاستقلال وتجميد عدد من هيآته وعلى رأسها العصبة الحرة، وكذا اعتقال رئيس النادي امحمد العبدي. وخلال هذه الفترة، ستنتقل رئاسة الفريق إلى الفرنسي “كينير”، وهو حدث لم يقابل بكثير من الارتياح عند كثير من سكان “كريان سنطرال”، بحسب الروايات المنقولة والمتداولة في أوساط قدماء الحي.
وخلال هذه الفترة، سيصعد “الطاس” تدريجيا ليصل إلى القسم الأول ابتداء من موسم 1955-1954.
“با عروب” الأب الروحي
لكن حكاية “الطاس” الفعلية لن تبدأ إلا مع العربي الزاولي المعروف بـ”العربي الكوك”. فقد سكنت “الطاس” الزاولي منذ أن التحق بها نهاية الأربعينات كمهاجم، وهو الذي كان يشتغل سائقا للشاحنات وعاملا في ورشة للنجارة ومهنا أخرى. قصة حب استمرت لأزيد من ثلاثين سنة، ولن يكون مبالغة القول إن “الطاس” هي الزاولي والزاولي هو “الطاس”، خصوصا خلال سنوات الستينات والسبعينات. شغل العربي الزاولي المتأصل من الصويرة تقريبا كل المناصب في النادي، من لاعب إلى مكون إلى مسير ثم إلى رئيس، بل إن الزاولي اختار السكن في منزل يطل على ملعب “الحفرة” حتى لا يضيع أي حصة تدريبية لفريقه. «لم أر في حياتي كلها شخصا مثله، كان يتابع منذ الساعة السابعة صباحا وحتى السابعة مساء تداريب جميع الفئات، من البراعم إلى الكبار، كان لا يكاد يطفئ سيجارة حتى يشعل أخرى، وكان ينفجر صراخا حينما يضيع لاعب تمريرة»، يتذكر الحاج الجناتي أحد قدماء مسيري الطاس في شهادته.
كان الزاولي مواظبا على متابعة مباريات الأحياء، وكلما برزت موهبة في الحي المحمدي أو في الفرق المحلية الصغرى كان يسارع لخطفها وصقلها، فقد جعل الزاولي “الطاس” مشتلا لإنتاج النجوم وتفريخ اللاعبين اللامعين. وقبل بداية كل موسم، كان الزاولي يعلن عن تربص انتقائي يضم مئات الشباب، يقوم بتجريبهم ويختار ألمعهم للانضمام إلى الفريق الأول. إنه أسلوب الزاولي الذي ظل عليه واتخذه منهجا.
جوكا بونيتو
عاش “الطاس” فترات مجده خلال الستينات والسبعينات. فكان الفريق الذي يقدم كرة قدم جذابة تسحر الناظرين من المناصرين والخصوم وضم في صفوفه أبرز اللاعبين على الصعيد المحلي في تلك الفترة، لكنه لم يكن فريق ألقاب. لم يكن يعير الزاولي البطولات الأهمية القصوى، بل كان يحبذ عدم الفوز بها.
«لم يكن الزاولي يعير البطولات أهمية كبيرة، على العكس كان يرى البطولات عبئا أكثر منه إنجازا لأنها تعني مصاريف مالية إضافية وخلقا للصراع مع فرق تسيرها شخصيات نافذة في الدولة. وكان يخشى كذلك من أن يصبح اللاعبون أكثر تطلبا على المستوى المادي، فلم تكن لديه الإمكانيات للإجابة عن ذلك»، يذكر الجناتي في شهادة صحافية.
خلال هاته الفترة الذهبية التي ما يزال جمهور “الطاس” ومتابعو كرة القدم المغربية يتذكرونها بكثير من الحنين، سيسطع نجم جيل من الموهوبين الذين سيجدون طريقهم كذلك إلى المنتخب الوطني، سيقودهم الزاولي مدربا ورئيسا. فكيف يمكن نسيان المهاجم محمد بؤَسا، الذي كانت الصحف تصفه بـ”تحفة الملاعب”، وخاض بعدها تجربة احترافية ناجحة في فريق ليون الفرنسي، أو علال النومير المسدد البارع لضربات الأخطاء والممرر الحاسم الذي كان يهابه كبار الحراس في البطولة الوطنية والذي جاور الفريق لأزيد من عقدين من الزمان مسطرا قصة وفاء للفريق الأبيض، بدأها والده محمد الذي كان رفيق درب العربي الزاولي حيث كان مكلفا بالأمتعة. إلى جانب بؤسا والنومير، أنجبت مدرسة الزاولي الكروية عددا لا يحصى من اللاعبين الموهوبين كالكوشي والمسكيني وعبد الخالق وحمو والريشي والزاز وفاتح والغزواني صاحب هدف المغرب في مرمى بلغاريا في مونديال المكسيك سنة 1970، والمهدي ملوك الظهير الذي سيتوج بكأس أمم إفريقيا مع منتخب 1976 قبل أن يلتحق بالرجاء البيضاوي لاحقا، والقائمة طويلة ممن تخرجوا من مدرسة الحمامة البيضاء، وشقوا طريقهم لاحقا في كبريات الأندية المغربية.
انقلاب أفيلال وتقهقر “الطاس”
لكن بداية الثمانينات ستشهد تغيرا في مسار “الطاس”، سيرحل الزاولي عن الفريق حزينا من طعن المقربين بعد أن نفذ الوجه النقابي البارز وأحد منتخبي الحي المحمدي عبد الرزاق أفيلال انقلابه الشهير سنة 1982 وتسلم رئاسة النادي، بعد أشهر قضاها في الكواليس يحرض اللاعبين والمسيرين واعدا بتطوير الفريق ورفع الرواتب. شعر الزاولي بالخيانة والتنكر، فأصبح جسدا بلا روح، واستبد به المرض وفي قلبه جرح عميق، وهو الذي لم يقطع علاقته مع الفريق وظل يحاول مقاومة الانقلاب مرددا «لن أغادر الطاس إلا على نعش». وكذلك كان، ظل الزاولي يسأل عن أحوال “الطاس” إلى أن باغته الموت وهو على فراش المرض سنة 1987.
وبرحيله، توارى نجم “الطاس” وانزلق في أكثر من مرة إلى أقسام المظالم، فكانت سنوات عجافا طويلة عاشتها جماهير الفريق وهي تردد «واش حنا هوما حنا»، إلى أن أعاد نهائي كأس العرش في وجدة إلى الحي المحمدي تلك العبارة الشهيرة: “مزيانة للطاس”.
عماد استيتو
النسخة الرقمية لمجلة «زمان» تجدونها على zamane.ma