تختزن مدينة الدار البيضاء العديد من الأسرار والحكايات والوقائع الضاربة في القدم، ويلفها الغموض كذلك منذ فترة ما قبل التاريخ .وعلى مر آلاف السنين تطورت المدينة ومنطقة الشاوية بتطور سكانها وأهلها. في هذا الحوار مع المؤرخ المتخصص نور الدين فردي، نسبر أغوار المدينة وبداياتها الأولى، مرورا بأبرز التحولات البنيوية التي عرفتها خلال فترات الاستعمار، وصولا إلى ما حل بالمدينة بعد استقلال المغرب إلى غاية اليوم.
في البدء، هل يمكن أن تقدم لنا نظرة شاملة عن التاريخ القديم للموقع الذي سيعرف لاحقا بمدينة الدار البيضاء، أي البدايات الأولى للتجمع البشري؟ وبماذا كان يزخر؟
تعتبر الدار البيضاء من بين المدن القديمة في المغرب، رغم أن الانطباع العام لدى العديد يحيل على أنها مدينة حديثة، بحكم عدم توفرها على مآثر تاريخية بارزة للعيان. وتشير الأبحاث الأركيولوجية والدراسات المنشورة حول العديد من المواقع الأثرية إلى تواجد الإنسان بهذه المنطقة منذ فترة ما قبل التاريخ. فالأبحاث الأثرية التي جاءت عن طريق الصدفة، في المقالع التي كانت في البداية لجلب الحجارة لبناء الميناء وكذلك عند بداية توسيع المدينة خلال بداية الفترة الاستعمارية أكدت على وجود الإنسان.
اشتهر من بين هذه المقالع، موقع سيدي عبد الرحمان (نسبة لسيدي عبد الرحمان دفين منطقة عين الذياب). أما المواقع الأخرى أغلبها يحمل أسماء الشركات التي تكلفت باستغلالها، مثل شنيدر وطوما ومارتان، وبهذه المناطق تم العثور على بقايا حيوانات وأدوات وبقايا بشرية. ومع بداية الأربعينات من القرن العشرين، أصبح موقع سيدي عبد الرحمان معروفا خارج المغرب بصفته موقعا أثريا. ومع مطلع الخمسينات، شرع في إنجاز حفريات مهمة في سيدي عبد الرحمان وشنيدر حيث عثر على بقايا بشرية أصبحت معروفة بإنسان سيدي عبد الرحمان، وهذا ما يؤكد استقرار الإنسان البدائي بالمنطقة والذي يعود إلى ما يقارب المليون سنة.
دفعت أهمية المنطقة إلى استمرار تواجد البعثات العلمية بشراكة مع فرنسا بعد الاستقلال. وفي التسعينات من القرن العشرين، تم العثور على بقايا ولقى بشرية خصوصا بموقع طوما، كل هذه الأبحاث أكدت على استقرار الإنسان خلال فترة ما قبل التاريخ.
بالنسبة لاسم الدار البيضاء ارتبط بفترة إعادة بناء أنفا من جديد عام 1784م، من قبل السلطان سيدي محمد بن عبد لله، الذي كان هاجسه فتح المغرب على السواحل الأطلسية لمواجهة مد الرأسمالية التي اكتسحت السواحل في العالم، و تؤكد بعض المصادر أنه أثناء مروره بها أعجب بمرساها، وأعطى أمره من أجل إعادة بنائها، خاصة أنها كانت مهملة ومخربة، منذ أن هدمها البرتغاليون، وقد بادر، في إطار سياسة الانفتاح، إلى الاهتمام بالمدن الساحلية (نموذج الدار البيضاء وفضالة والصويرة).
ويلاحظ أن المؤرخ محمد الضعيف أشار إلى أن السلطان، «لما نزل بموقع أنفا رأى المرسى فأعجبته ووبخ أهل الرباط الذين كانوا يعيبوها له، لأنهم كانوا يخافون من تعميرها، وعند وصوله إليها ظهرت له دار بيضاء اللون وحيدة وسط دور قليلة مهدمة، فأطلق على هذا الثغر اسم الدار البيضاء، وأمر ببناء الأسوار، وأذن للنصارى أن يصدروا منها الحبوب، وعين على الشاوية القائد عبد لله الرحماني الذي كان سجينا بأسفي، وأمره ببناء داره بالدار البيضاء. وتكلفت قبائل الشاوية بذلك حيث فرض على القبائل بناء الأسوار. ونظرا للقيمة الاستراتيجية لهذه الأسوار، أقيمت بها سبعة أبراج جهزت بمدافع من مالطة، ونقل لها نحو ألف من جنود البخاري. وتعزيزا لهذه الحامية، استقدم السلطان إدالة من أمازيغ حاحا، الذين تكلفوا بدورهم بحراسة هذا الثغر».
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 129 من مجلتكم «زمان»