يشغل الأستاذ والباحث أحمد بوكوس عمادة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وهو منصب تقلده بعد تقلبه بين محاضن البحث العلمي، وبين نشاطه الحركي من أجل القضية الأمازيغية. في هذا الحوار، مع مجلة ”زمان”، نتعرف أكثر على الرجل، وعلى مساره الأكاديمي الذي جعله أحد أهم اللسانيين المشتغلين بالمسألة اللغوية داخل المغرب وخارجه، فيحدثنا عن بدايته الأولى والصعوبات التي واجهها بين أحضان عائلته، قبل أن ينخرط مع شيوعيي المغرب وينشط برفقتهم، ويسهم في إطلاق شرارة الحركة الثقافية والأمازيغية .يخوض بوكوس، أيضا في هذا الحوار، في قضايا تاريخية ”ذات حساسية” لدى المؤرخين، من أهمها علاقة الحركة الوطنية بـ”الهوية الأمازيغية”، وقبلهم سلاطين وحكام المغرب، فضلا عن الجدل حول مشاركة الحركة الأمازيغية في الشأن السياسي.
في البداية، اسمح لنا أن نعود بك إلى ظروف نشأتك لنتعرف إليك أكثر، حدثنا عن هذه المرحلة وعن تكوينك.
اسمح لي في البدء أن أعود إلى سياق ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث هيمن العالم الغربي، وتوسعت فيه القوى الاستعمارية في كل من آسيا وإفريقيا، فنشأت عن ذلك حركات تحررية كان للمغرب نصيب من النضال والمقاومة فيها، من خلال الحركة الوطنية المغربية. هذا السياق أذكره، لأنه سياق أثر على الحياة وأطرها بشكل كبير، في جميع مناحيها سواء في المناطق الريفية أو الحضرية، حيث تضررت بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أنا من أصول قروية، ولدت في منتصف الأربعينات من القرن الماضي بمدشر إيمجارن بقبيلة الأخصاص، جنوب تيزنيت. نشأت وسط محيط يعتمد، بشكل كبير، على الإنتاج الاستهلاكي، من فلاحة الشعير وتربية قطيع الأغنام، وزيت أرﯕان، وجميعها منتجات تكفي للاستهلاك العائلي. توفي والدي في حادثة سير وأنا لم أتجاوز السنة الثانية من عمري، فاضطرت والدتي أن تغادر البيت الزوجي بمعية ولديها، لتلجأ إلى بيت عائلتها بمدشر إد جلّول الذي يبعد بعشرين كيلومترا تقريبا .تلك كانت قاعدة “الأسرة الأميسية“ للمجتمع الأمازيغي. فمكثنا بضع سنوات لدى الأخوال .وبحثا عن الكرامة الإنسانية والاستقلال المالي وعن ظروف أفضل للحياة، قررت الوالدة أن تنتقل بنا إلى مجال جديد علينا وهو المجال الحضري بمدينة أﯕادير، وتحديدا بحي إحشاش، وهو حي يقطنه الكادحون من المتمدّنين الجدد. وهناك وقع التحول الكبير في مساري حيث اكتشفت عالم الحياة العمالية لوالدتي بمعامل تصبير السمك وتصبير الخضروات، والحضانة بالمعمل وأجرة “الكانزا“ وسلطة “الكابرانا“، و“كارطة“ النقابة والتنظيم العقلاني للوقت والكدّ من أجل الصمود.
كيف كانت دراستك في ظل هذه الظروف؟
بحكم اقترابنا أنا وأخي لسنّ التمدرس، قررت الوالدة تسجيلنا بـ“دار الرهيبات” [الأخوات في الديانة المسيحية] حيث يحتضن الأطفال اليتامى ويرعين شؤونهم .وبالمناسبة، لا أتذكّر أننا تلقينا دروسا في الديانة المسيحية .أنا أعتز كثيرا بنظام التربية والتعليم الذي تلقيته من “الرهيبات“؛ فقد تعلمنا أنا وأصدقائي تدبير الوقت، ومعنى الانضباط والنظافة والتغذية المتوازنة والتربية الرياضية، كما استوعبنا بالملموس قيم التضامن والتعاضد، جعلتنا نحن اليتامى كإخوة. بعد ذلك، انتقلت إلى المدرسة الابتدائية للحي الصناعي إلى أن تحصّلت على شهادة التعليم الابتدائي، فعدنا أنا وأخي إلى أحضان الوالدة بالبيت الجديد بالحي نفسه .وكم كانت فرحتنا بالعودة إلى دفئ الحياة العائلية.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 104 من مجلتكم «زمان»