تحل الذكرى الثالثة لانطلاق حركة “20 فبراير”، وكذا الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011، ومعهما تنتصب تساؤلات كبرى حول مسار المغرب كدولة وكمجتمع. لقد أحدث الشباب الفبرايري، بعنفوانه واندفاعه، ثغرة في البنيان المحافظ الذي يغذي اقتصاد الريع والعلاقات الزبونية وثقافة الخوف والاتكالية. كما أن الخطاب الملكي المتفاعل مع الأحداث فتح الطريق لإصلاحات جديدة في النظام السياسي، متحكم في طبيعتها وسرعة إنجازها. وبدا جليا، منذ أواسط مارس 2011، أن السيرورة التي انطلقت محدودة في الزمن، وأن حجم وعمق الإصلاحات المنتظرة رهينان بخبرة وقدرة وإمكانيات الفاعلين. فإن كان الشباب المنتفض، في غالبيته، قد اختار العزوف عن الفعل وسط الحقل السياسي، وتموقع في هامشه مراهنا على ثورة عارمة للشعب الغاضب، وبذلك سهل على فاعلين آخرين توظيف الظرفية الاستثنائية لتحقيق طموحاته السياسية، فإن معظم القوى السياسية فضلت العمل داخل الإطار الذي حدده خطاب تاسع مارس دون الاقتراب من السقوف التي رسمها.
هكذا انطلق “النقاش” حول الإصلاحات الدستورية، وتشكلت لجنة صياغة من نساء ورجال كلهم مغاربة، لجنة علنية وحاملة لكفاءات ليست بالهينة. فاجتهد البعض، وعلا ضجيج البعض الآخر، وتمخض الأمر فولدت النسخة الأولى لمشروع دستور 2011. حينها اختلف المغاربة المعنيون حول تقييم المشروع. منهم من اعتبر الدستور المقترح إيجابيا جدا مقارنة مع دستور 1996، خصوصا في مجال توسيع دائرة حقوق الإنسان وإقراره توازنا معقولا بين سلطات الملك وسلطات رئيس الحكومة، وإقراره مبدأ محاسبة المسؤولين. ومنهم من اعتبر المشروع مجرد صياغة جديدة للدستور الذي سبقه خصوصا في مجال سمو الشرعية الملكية على كل الشرعيات المنبثقة من الاستشارات الشعبية، وبقاء سلطة التعيين في القطاعات الاستراتيجية خارج السلطة الشعبية المنتخبة.
لم يكن هذا النقاش جديدا في المغرب. فقد صاحب كل فترات إجازة الدساتير السابقة. إلا أن الجديد، منذ 2011، هو أن القائلين بإيجابية الدستور الجديد يشددون على عبارة “إقران المسؤولية بالمحاسبة” الواردة في الخطاب الملكي وفي نص الدستور.
لسنا بحاجة إلى التذكير بتنصل معظم المسؤولين، سواء داخل الحكومة أو في الدوائر المركزية للدولة، من مسؤولياتهم وتحمل تبعات ممارستهم والدفاع عن حصيلتهم. فكثير من الأحزاب شاركت في الحكومات السابقة، وبعضها ترأس المجلس الحكومي، تبرأت من حصيلتها معلنة أنها لم تكن تتوفر على “السلطة الفعلية”، وأن هذه في يد “حكومة ظل” وتحت رحمة لوبيات متنفذة.
هل سنسمع نفس هذه التبريرات عند نهاية ولاية الحكومة الحالية؟
إن الأحزاب المشاركة في حكومة عبد الإله بنكيران صوتت بـ”نعم” على دستور المملكة الأخير، وأعلنت حينها أنه يمكن الحكومة ورئيسها من صلاحيات كبرى، وأنها ستتحمل مسؤوليتها، وستكون مستعدة للدفاع عن حصيلتها وتقديم الحساب للشعب… نتمنى أن تفي بعهدها. لقد اكتشفت، كسابقاتها، وفي أقل من سنتين، أن عمق الفساد وثقل اللوبيات وهشاشة أوضاع غالبية الفئات الشعبية، لا يتطلب فقط تشكيل أغلبية برلمانية عددية، بل امتلاك سلطة الفعل الاستراتيجي لقيادة الإصلاحات الجوهرية المؤدية لدولة المؤسسات ومجتمع المواطنة.
هل الدستور الحالي للمملكة يعطيها هذه السلطة؟
هناك من يعتقد ذلك، ومنهم الأحزاب المشكلة للحكومة.
لماذا، إذن، تحصر هذه الأخيرة فعلها في ما يشبه تصريف الأعمال، وتعطينا الانطباع أن كل الآمال التي فتحتها ظرفية 2011 تبخرت وذهبت مع الريح؟
لسنا لا من دعاة الأزمة ولا من هواة التأزيم. وأملنا أن تترسخ في بلادنا، ليس فقط المنهجية الديمقراطية بل الثقافة الديمقراطية.
لذلك، نحن مع تمكين رئيس الحكومة وحلفائه من إتمام ولايتهم وتطبيق برنامجهم. ومقابل ذلك أن يقدموا الحساب كاملا، دون تعليق لمسؤوليتهم على عاتق سلطة مستترة أقوى وأعتى منهم. فالدستور، حسب قراءتهم له، يعطي الحكومة صلاحيات واسعة. لماذا لا تمارسها؟ أأخطأت فهم مقتضيات الدستور أم تقاعست في تفعيلها؟
لقد تعاقدت القوى المساهمة في الحكومة مع المغاربة من أجل مقاومة الفساد، وتنمية الثروة الوطنية وتوزيع عادل لها، وصيانة حرية وكرامة المواطنين وسيادة رابطة القانون.
لا يزال المغاربة ينتظرون، وغضبهم يتراكم.. فصارحوهم بحقيقة الأمور، فتلك الخطوة الأولى نحو الحكامة الجيدة.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام