تداولت الصحافة الوطنية في الآونة الأخيرة ما أسمته بمفاجأة من العيار الثقيل، فجرها مسؤول في البنك الدولي، بكشفه أن المغرب مقبل على اقتراض أزيد من 4 ملايير دولار خلال الفترة الممتدة بين 2014 و2017. في وقت يجري فيه التكتم في الأوساط الحكومية على مثل هذه القرارات الخطيرة. وجرى تفاوت في تحليل هذا الخبر بين من يرى في الأمر مجرد إجراء أملته ظرفية الأزمة، وأنه استمرارية لنهج سابق فرط في القرار السيادي للمغرب ورهن البلاد لدى المؤسسات المالية الدولية من أجل حفنة من الدولارات، وبين من حمل الحكومة الحالية مسؤولية هذا الاختيار «غير المسبوق» لافتقارها لإستراتيجية اقتصادية، والمراس في تدبير الشأن العام. ثم عادت الصحافة الوطنية، أسبوعا بعد ذلك، للحديث عن رفض الحكومة فرض الضريبة على «الدخول والأرباح الناتجة عن الثروة»، لأن فرض الضريبة على ثروة الأثرياء ستكون له آثار سلبية على الجانب الاستثماري بالمغرب.
جاء هذا التداول الصحفي بعد مدة وجيزة من احتدام النقاش حول جدوى قرار التضريب الفلاحي، سواء بين المهنيين أو بين ممثلي الأمة، بين قائل بالحاجة إليه بعد تأخره، وبين من اعتبر الموضوع مجرد مناورة سياسية. وإذا كان الباحثون في الاقتصاد قد راكموا دراسات وأبحاث وقدموا آراء وتحليلات تعتبر نبراسا موجها في هذا الشأن، سواء بالنسبة للتدابير الحالية المتعلقة بالشأن الجبائي، أو بمحطات سابقة، خاصة في تقييمهم لنتائج وتوصيات المناظرتين الوطنيتين الأولى والثانية حول موضوع الإصلاح الجبائي، فإن ما يمكن للمتتبع التقاطه من هذه التحليلات هو تنبيهها إلى ثلاثة أمور أساسية، نعتقد أن الاضاءة التاريخية مفيدة فيها من أجل الاستئناس والفهم، يتعلق الأمر بثنائية الإصلاح الضريبي المعاق والحاجة للاقتراض من الخارج، وتلازم مسعى طلب القروض وهدر السيادة، ووجود تصورين للإصلاح الضريبي الأول مغربي والثاني من إيحاء المؤسسات المالية الدولية.
سبق للمغرب أن عاش وضعية شبيهة قبيل فرض نظام الحماية، مع اختلاف في السياق والحيثيات، فبعد الهزيمة أمام الإسبان سنة 1860 نضبت موارده المالية جراء الغرامة الاسبانية والقرض البريطاني المرتبطين بهذه الحرب، وحاول السلطان محمد بن عبد الرحمان تدارك الموقف باللجوء إلى القبائل دون جدوى. ثم سعى خلفه الحسن الأول إلى إقرار أول إصلاح ضريبي عصري عرف بضريبة الترتيب، وصدر في شكل قانون/ضابط الترتيب يوم 30 مارس 1881 يستند لأول مرة على أسس تشريع يزاوج بين الشرعي والوضعي، في محاولة لاحتواء الأجانب ومن في حمياتهم وإجبارهم على أداء الضرائب. ولما كان هذا السلطان يدرك جيدا، بحكم خبرته القوية، أن تمرير مثل هذا الإصلاح أمر ستواجهه لا محالة مثبطات داخلية وخارجية، تعامل مع الأمر بمرونة شديدة، تاركا الباب مفتوحا للتعديل أو التجميد إلى حين. وبعد مرور عشرين سنة على هذه المحاولة الجريئة في المجال الجبائي، حاول المولى عبد العزيز إحياءها بنوع من الحماس، مما أنساه الانتباه إلى معارضتي الداخل والخارج لها معا، فانتهت حبرا على ورق، رغم طموحها الحالم في التسوية بين «المشروف والشريف والقوي والضعيف» في الأداء، وحرصها على أن أول من سيطاله التضريب هي أموال وممتلكات القواد والعمال. وإذا كان المؤرخ الفرنسي بيير كيلين يرجع فشل الترتيب العزيزي إلى اعتراض الفرنسيين عليه، سعيا منهم لمزيد من تأزيم المغرب ماليا وجره إلى مستنقع الاقتراض، فإن تداعيات هذا الملف أثبت بالملموس أن فشل الإصلاح الجبائي سنة 1901 قاد عمليا إلى طلب أول قرض من فرنسا سنة 1902 بقيمة 7.5 مليون فرنك، ولو بدون شروط تمس سيادته. لكن نفس المؤسسة المانحة لهذا القرض (بنك باريس والأراضي المنخفضة) سرعان ما عادت سنة 1904 لتمنح المغرب قرضا آخر قيمته 62.5 مليون فرنك، بشروط قاسية جعلت مصيره ومستقبله المالي رهينة بيد هذا البنك الذي وضع يده على 60% من مداخيل المراسي المغربية لأداء مستحقات القرض، معلنا الشلل التام لمالية المخزن ونهاية تحكمه في أموره المالية. وبعد مرور ست سنوات على طلب هذا القرض كان على السلطان المولى عبد الحفيظ أن يعود لنفس «المانح» ليطلب قرضا جديدا فاق 101 مليون فرنك، اعتبره المؤرخ شارل أندري جوليان بمثابة الحبل الذي خنق السلطان وقضى على آخر مقومات السيادة المغربية.
أدى الفشل في إقرار نظام ضريبي عصري كفيل بتوسيع الوعاء الجبائي وتنويع موارد الدولة إلى السقوط في شرك الاقتراض أولا، ثم فقدان السيادة والاستقلال ثانيا. وبعد نهاية عهد الحماية جرى إقرار مجموعة من التعديلات الضريبية، فانتهى العمل بالترتيب سنة 1961، لتحل محله ضريبة فلاحية سرعان ما جرى التخلي عنها بدورها، فلما طرح موضوع تضريب القطاع الفلاحي من جديد كثر اللغط واختلفت القراءات والتأويلات. واهتمت الدولة منذ 1967 بموضوع الرسوم الجمركية بتسطير تعرفة تفاضلية عوض التعرفة الجمركية الوحيدة التي كانت مطبقة طيلة عهد الحماية، وفي 1972 تم تسطير ضريبة المساهمة التكميلية على دخول الأشخاص الطبيعيين، ثم بعدها ما عرف بضريبة التضامن سنة 1980 والضريبة على الأرباح المهنية والاقتطاع من الرواتب والأجور. ومع برنامج التقويم الهيكلي ظهرت ثلاث ضرائب جديدة، على القيمة المضافة والشركات والدخل. لكن مع كل هذا انتهى الأمر إلى الإقرار بالعجز في الوصول إلى النجاعة الضريبية الكفيلة برفع موارد الدولة بما يمكنها ليس فقط من إصلاح صندوق المقاصة، ولكن يجنبها التضحية بقرارها السيادي مقابل قروض أدخلتها في دوامة التبعية. فهل بعد مناظرتي الإصلاح الضريبي وطرح مشروع التضريب الفلاحي سينجح المغرب في تبني إصلاح ضريبي حقيقي يراعي معايير الإنتاج والدخل والثروة، ويستجيب لانتظارات ورهانات الداخل وليس لتوصيات الخارج بما يكرس التبعية وينسف السيادة؟ أم سنخطئ موعدنا مع التاريخ مرة أخرى؟
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير