ربما يكون شهر مارس الشهر الذي يجمع أكبر عدد من الأيام التي ترتقي إلى مستوى الذكريات الوطنية. لعل أهم هذه الأيام، ويا للصدفة، هي تلك التي يبتدئ بها الشهر والتي ينتهي بها. ففي 30 مارس 1912 فقد المغرب استقلاله ودخل مرحلة الحماية. كما أن يوم ثاني مارس 1956 حصل المغرب، رسميا، على استقلاله. فقد هذان الحدثان قيمتهما كملتقى وطني للذاكرة الجماعية. فقد تستحضر يوم 30 مارس ذكرى يوم الأرض الفلسطينية، ولا يذكر يوم توقيع عهد الحماية. ربما لأن المغاربة يعتقدون أن استقلال المغرب رمى بهذه “الذكرى المشؤومة” في “مزبلة التاريخ”.
قد يتعلق الأمر، أيضا، بهروب جماعي من واقعة تذكر بـ”نكسة وطنية” لا فائدة من إحيائها، أم أن الأمر مرتبط، فقط، بانسياب الزمن وطاقته في جرف كثير من الأحداث بعيدا عن فضاءات الاستذكار. هذا منطق الذاكرة، فهو ليس لا بالمستقيم ولا بالشمولي. يحتفظ لمعركة وادي المخازن بمكانة رفيعة ويتناسى يوم فقد المغرب استقلاله. إلا أن فضاءات المؤرخ المحترف أوسع وأشمل، ولا تستثني من الأحداث إلا ما لم تستطع الإحاطة به لغياب أو ضعف المادة المصدرية. فـ”طائفة” المؤرخين لا تهدف إلى الاحتفال بالماضي بل تجتهد في فهمه عبر تفكيك رموزه وطقوسه. ويبدو أن السؤال المرتبط بـ30 مارس 1912، لم يستنفذ كل الأجوبة الممكنة والمنيرة، وبالتالي فالسؤال لا زال راهنا من الناحية العلمية. أما يوم ثاني مارس 1956، فلم يرق يوما إلى مستوى “عيد الاستقلال”، فقد همش منذ البداية. لقد اعتبرت القوى الوطنية المناهضة للاستعمار أن شرعية هذا الأخير المؤسسة على عقد الحماية، قد تبددت لما مس الفرنسيون شرعية سلطان المغرب، فأنزلوه من عرشه ثم نفوه. فأصبحت معركة إرجاع سيدي محمد بنيوسف إلى عرشه أم المعارك بالنسبة للوطنيين. لذلك لما عاد من منفاه انفجرت عواطف فرح المغاربة، وخرج الشعب المغربي للشوارع متحديا سلطات الحماية وأجهزتها الأمنية. فاعتبر المغاربة تلك الأيام أيام تحرير واستقلال. فتأسست “الأيام الخالدة” ولم يعد هناك ليوم ثاني مارس أثر. أما السلطات الاستعمارية فقد تركت لنا الاحتفال والإقتتال، وأعدت بهدوء ودقة برنامج الحفاظ على مصالحها بالمغرب. فجاءت وثيقة الاستقلال لثاني مارس في شكل لا يتناقض مع الطموحات الفرنسية..
في هذه الحالة أيضا، وحتى عندما يتفهم المؤرخ المحترف سيرورة تواري يوم إعلان استقلال المغرب، أمام 18 نونبر يوم عيد عرش الملك محمد الخامس، أي انمحاء الأول من الذاكرة الجماعية وارتقاء الثاني إلى عيد رسمي، “عيد الاستقلال”، فإنه يحافظ على السؤال التاريخي: لماذا توحد الوطنيون المغاربة ضد الاستعمار وتفرقوا حول وخلال المفاوضات من أجل الحصول على الاستقلال؟ بالرغم من الإشعاع الذي خلفته عودة السلطان وعائلته من المنفى، فإن مناطق اللبس في سيرورة الحصول على الاستقلال لا زالت قائمة وتستدعي عودة نقدية للموضوع.
لا يؤشر شهر مارس، فقط، على بداية فصل الربيع، وما يتبع ذلك من اخضرار وإزهار في الحقول والروابي، بل يحتضن ربيعين متميزين في ماضينا القريب، الأول هو الربيع النسائي المخلد يوم 8 مارس، يوم “عيد المرأة”. دخل هذا العيد العالمي للمرأة ذاكرة الاحتفال المغربية منذ بداية ثمانينات القرن العشرين، إلا أنه لم يترسخ في الذاكرة الجماعية إلا في بداية الألفية الثالثة. فقد احتفلت به هذه السنة كل الأوساط، وخلدت عبره “منجزات المرأة المغربية”، والمكاسب التي حققتها في “مدونة الأسرة”.
مسار نضال الحركة النسائية المغربية من أجل المساواة وإلغاء مظاهر الدونية والاستغلال والعنف، مسار شاق، ومسالكه وعرة وموغلة في شعاب العقليات المحافظة التي لا زال لها باع طويل في هيكلة المخيال الجماعي المغربي. فتاريخ هذا النضال الحضاري، بالرغم من حداثته، لا زال بحاجة إلى تركيب منهجي. وقد يشوش الاستذكار الاحتفالي على ذلك.الثاني هو “الربيع الشبابي” وما استدعاه من تغييرات في المشهد السياسي المغربي. لقد انطلقت حركة “20 فبراير” في سياق التطورات المهمة التي شهدتها تونس ومصر. فتحركت فئات من الشباب المغربي، عبر الشبكة العنكبوتية أولا، ثم الشوارع المغربية، لتطالب بإسقاط الفساد والاستبداد. فإن كانت البدايات الأولى، خلال الثلث الأخير من فبراير 2011، فإن ارتفاع زخم الحركة واكتمال ملامحها كحركة مدنية مطالبة بالتغيير الديمقراطي سيحصلان خلال شهر مارس. فيوم 9 مارس سيتفاعل الملك محمد السادس مع الحركة وسيوجه للمغاربة خطابه الشهير الذي سيطلق سيرورة إقرار دستور جديد. كما أن يوم 13 مارس مرتبط بمحاولة الأوساط الأمنية للدولة تصفية الاحتجاج الشبابي بالعنف والقوة وفشلها في ذلك. ويوم 20 مارس 2011، سيركز الطابع المدني والشعبي للحركة بخروج مئات الآلاف من المواطنين في ما يفوق 300 مدينة وقرية للمطالبة بوضع حد للاستبداد والفساد وكل أشكال الزبونية والمحسوبية. كما يذكر 20 مارس، بحشوده وشعاراته وسلميته وحجم الآمال المعقودة على المستقبل، بالأيام الخالدة لبداية عهد الاستقلال. ستتدخل القوى المنظمة (في ظرفية 1956 وظرفية 2011) لتسرق من الذين فجروا الأحداث وأدوا ثمن ذلك، ثمرة مجهوداتهم وتضحياتهم. كيف حصل ذلك؟ لماذا لم يستفد شباب الألفية الثالثة من تجارب شباب القرن العشرين؟ لماذا تتجاهل الأجيال عطاءات بعضها البعض؟
قد نعدد الأسئلة مع تجارب شباب 23 مارس 1965، و”منظمة 23 مارس” السرية.. وسنقف عند نفس الخلاصة: شرعية استحضار الذكرى والاحتفال بها.. وضرورة المساءلة النقدية لتفادي تضييع حقيقتها التاريخية. هذا عمل المؤرخ المحترف.. والواقع أن مجتمعنا لا يعطي لهذا الأخير المكانة التي تليق به.
لذلك ندعوكم إلى احتضان مؤرخات ومؤرخي المغرب، ودعوتهم، لا إلى محاباة ذاكراتكم المختلفة، بل إلى اعتصارها بقوة المنهج العلمي.. فهم ضميركم النقدي.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام