عمل الإنسان على تطوير ملابسه منذ بداياته الأولى، ويمكن القول إن اللباس شكل لوحده سجل تطور البشرية عبر التاريخ.
يشكل اللباس نصا إيحائيا يحتوي على خطاب مرموز يُعطي الناظر إليه والمتلمس له إمكانية قراءة معانيه ودلالاته. وأثناء لحظة “ارتداء” الثياب، تتشكل علاقة متبادلة ووطيدة بين الجسد الإنساني واللباس. ومع الانتهاء من مراحل الارتداء، يصبح فيها الجسد حاملا لعلامات معرفية وإشارات دالة عن حمالها. ويحرص الرجال والنساء على إلقاء نظرة في المرآة على صورتهم بعد الانتهاء من كل لبسة، للاطمئنان على النسق بين الجسد واللباس والتنسيق بين المظهر والروح.
كان اللباس ذاته متجسدا في الجسد، وقد شكل في المجتمعات القديمة لوحة إشهار، تروم إظهار الانتماء والنسب وفئوية المجتمع والطبيعة المهنية وانتساب العقيدة. لقد شكل اللباس عبر التاريخ سجل تطور البشرية، إذ رافق تطور الإنسان منذ أن أدرك أن الطبيعة أقوى منه وعليه أن يحمي أطراف جسده من قساوتها. فاستفاد من ارتدائه وهو في مرحلة القنص، وساعده وهو يستقر لممارسة الزراعة والفلاحة. ولما تطورت الحضارات القديمة وبدأت مرحلة التباهي والافتخار، سخر الإنسان اللباس لتمرير خطاب الانفراد والتميز.
من ستر العورة إلى التباهي
حرص الإنسان على تخليد تطور أشكال ملابسه وزينتها بدءا من الرسوم الجدارية في الكهوف والمغارات التي كان يسكنها في العصر الحجري القديم، وكذا الرسوم والنقوش الصخرية، والصور الحائطية في المقابر عند المصريين مثلا. وتزخر منحوتات وتماثيل الحضارات القديمة بأشكال من اللباس تسعف في تتبع تطوره التاريخي في الحضارات القديمة. وأخيرا، فإن كتابات المؤرخين القدامى وتحاليل علماء الآثار المعاصرين، تغذي تطلعاتنا للمعرفة التاريخية للأزياء من مرحلة ستر العورة إلى التباهي.
تسعف المصادر التاريخية في تقديم استعراض لتطور اللباس عبر تعاقب الحضارات القديمة. وسنعمد إلى تتبع عرض تاريخي للباس في هذه الحضارات من خلال تقديم لوحات استعراضية فوق منصة يولى فيها العارضون استعراض لباس كل حضارة. وهذه طريقة تمكن من تتبع تطور اللباس، والوقوف عند مميزات وخصوصيات لباس كل حضارة، وتوظيف اللباس في إرسال إشارات وإيحاءات. وأخيرا، توظيف التاريخ في فك شفرة “الموضة” التي تشكل عماد كل سترة ولباس عبر تاريخ البشرية. يبدأ هذا الاستعراض بأسطورة اهتداء الانسان إلى اللباس، وحيث أن الأسطورة مرتبطة بقوة خفية، فإن أسطورة اللباس تجعله مرتبطا بحنان المرأة. تحكي الأسطورة البابلية أن الربة برتا هي أول امرأة غزلت ونسجت بيدها أول ثوب، إيمانا منها بأن هذا الكساء سيجذب لها أنظار المعجبين من الرجال. ونسب اليونان القدماء الملابس إلى الربة عطارد، بينما نسب قدماء المصريين الملابس للإله “طوت”. وتشير النصوص الدينية، بشكل أو بآخر، إلى السترة منذ بدء الخليقة، وكان لحادثة خروج آدم وحواء من الجنة، بعد أن أكلا الثمرة المحرمة وشعرا بالخجل والندم على هذه المعصية، أن سترا عورتيهما بأوراق من شجر التين.
سعيد البوزيدي
تتمة المقال تجدونها في العدد 20 من مجلتكم «زمان»