في محطة القطار انتظمت في صف يفصله عن كل شخص متر، وأدليت بشهادة من السلطات المحلية لصاحب الشباك، كي أقتني التذكرة. راجعني كي لا يسقط عني العِذار، أو ما يسمى بالكُمَامة. كنت قرأت سيلا من الملاحظات حول هذا القناع، من قائل إن الكمّامة هي للكلاب، شرّف لله قدركم، لأنه تكمم الفم ولا يجوز والحالة هذه أن تطلق على الإنسان، ومن قائل وقد سرى اللفظ، إن الصواب لغويا هو الكِمامة (بالكسر)، وارتأيت من خلال معرفتي البسيطة بقواعد اللغة العربية، أن صيغة فِعالة هي مصدر صناعة، كما يقول النحاة، أي المهن، وأن الصواب هو صيغة فُعالة، كما النُّفايات التي تنطق خطأ بالكسر. لم يعد لي أن أفكر في جوهر الأشياء، ورحت، في غمرة الحجر، إلى شكلها؟ أم لا بد من أن نفكر في الشكل قبل أن ننتقل للجوهر؟ وهببت للتو، بعد أن انتهرني صاحب الشباك، أرفعها كي لا تكشف سوى عينيي. أصبح الوجه عورة. غريب كم تطورت العلاقة بين من يملك سلطة، أيا كانت، ومن تُجرى عليه السلطة؟ لم يعد صاحب الشباك صاحب وظيفة بل صاحب سلطة، وكذا الشرطي، بل حتى المخزني… كنت أتحايل عليه كي أنزل الشاطئ حتى لا يضبطني. تضاءلتُ في غمرة كورونا. وتقلص حيز مواطنتي وازداد حيز السلطة. وبقاطرة القطار أمهلني مستخدم في الجلوس حتى ينفث مبيدا على الكرسي. لم أشتر الجرائد كما كنت أفعل قبل سبعة شهور، واكتفيت بالتقلب في هاتفي المحمول بين المواقع. لم أصافح أحدا، ولم يصافحني أحد. كان يصحبني في ذات القاطرة من الرباط إلى الدار البيضاء واحد من معارفي، لم أتعرف عليه إلا بعد أن وصلنا المحطة، وعرفته من مشيته. كانت الوجود بما تحمله من أعذار، عفوا من كمامات، لا تفصح عن مكنونها. لا يُقرأ في وجوهها لا الفرح ولا الترح، ولا يقف المرء على قسمات وجه وما يحمله من تعابير أو جمال وإغراء قد يكون مطية علاقة أو مغامرة وحب ومودة. بلغت مجلة “زمان”، وكان من الزملاء من لم ألتق به لأكثر من ستة أشهر، ولم نتصافح، وبقينا على حذرنا كي نبقي التباعد الجغرافي. في آخر مرة ركبت القطار إلى الدار البيضاء، قبل سبعة شهور، لم يكن شيء من ذلك. في زهاء ستة أشهر تغير العالم. وتغيرت السلوكات. انتقلت فجأة من الشباب إلى الشيخوخة، بلا مرحلة فاصلة. وكنت صورة لتغير العالم. تغيرت ملامحه وصوره. قد تنتهي الصحافة الورقية، وقد تصبح الكمامة لازمة، وقد يصبح التعليم عن بعد أكثر من خيار، بل توجها، وقد تنتهي المصافحة، والعناق، واللقيا، كما في مباريات كرة القدم، وحفلات الزفاف… قبيل أيام، مات الصحافي محمود معروف، وذهبت للعزاء، ولم أضم أهله، ولم أصافح ذويه، ولم أتعرف على وجوه المعزين…
في بروفة العالم الجديد، ألغيتُ، عفوا ألغيتْ، كل أسفاري المبرمجة للخارج، من محاضرات وندوات… ولن أستطيع أن ألتزم بشيء من لقاءات في المغرب وخارج المغرب. سنصبح كلنا كما أبو العلاء المعري، رهيني محبس المكان. ومن يدري، لعلنا أن نصاب مثله بالعمى. عمى ليس البصر ولكن البصيرة. عالم جديد. فرض علينا نفسه، ليس فقط في تصورات كما بعد سقوط حائط برلين، بل في سلوكات… والمرجح أن التوجه الحالي سيستمر، باكتشاف اللقاح أو من دونه…
دخلنا زمن اللايقين، بل زمن اللايقين الجذري، كما يسميه البعض. وينبغي أن نفكر في ذلك، ونفكر فيه في هدوء. تغييرُ السلوك ليس إلا الجانب الظاهر. فليست علاقاتنا الاجتماعية ما يتغير وحدها، بل القواعد الناظمة للعالم.
كان اكتشاف البنسلين ثورة علمية غيرت معالم العالم. نحو الأفضل. زادت من الأمل في الحياة، وكورونا ثورة، كذلك، ولا ندري نحو ماذا. لا أجرؤ على القول نحو الأسوأ، ولكنها تعصف بكل ما درجنا عليه. وتفرض علينا تفكيرا جديدا.
لن يتعافى الاقتصاد قبل سنوات، ولن تعود الدينامية التي عرفها العالم قبل عشرين سنة، وستتزعزع أركان العولمة، أو ستصبح افتراضية. سِـ”ينتقل” الناس عبر الزوم، ويتبادلون اللقاءات ويجتمعون عبر الرقمي…أسوأ مما تصوره ألدو سهاكسلي في العالم الأمثل “The brave new world” . والأدهى أننا ندخل زمن كساد الديمقراطية، ونغشى ثورة مضادة لما سمي بعصر الجماهير. ندخل زمنا بلا عنوان. ما العمل؟
قد يسعفنا الهدوء، ويفيدنا التأني. وقديما قيل، الصبر حيلة من لا حيلة له، وقياسا نقول، التأني حيلة من لا حيلة له. نعم نحن مطالبون أن نفكر فيما يجري، وليس يكفي ذلك، بل أن نفكر في قواعد التفكير الجديدة. كل شيء تغير، وعلينا أن نلتئم.
نعم هو ظرف عصيب، وقد لا تسعفنا التقنيات بقدر ما قد يسعفنا التروي والحكمة. لسوف أسِرُّ بشيء. أشعر بضعف الحيلة، وأشعر بأنني متجاوَز.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
كلما وجدت مقالك اقراه براحة وهدوء ﻻنك تغوص بنا في اعماق اللغة العربية كتابة القلب ياكاتب القلب اعانك الله
الدكتور حسن أوريد من الكفاءات العالية بالمغرب ومفخرة لبلدنا.دمت متألق دكتورنا الغالي.