إذا كانت النخب السياسية تدون القوانين، والنخب الثقافية تكتب وتبحث، والنخب الدينية تشرع، فالشعب، أو بمعنى آخر، المجتمع يبتكر الأمثال والحكم .حتى في الأزمنة البعيدة والغابرة، وحتى قبل اختراع الكتابة، كان للشعب صوته وحكمته. وكان يعبر بوسائله الطبيعية والفطرية عن همومه وأفراحه، بل كان يؤرخ بطريقته الخاصة لحياته، بحلوها ومُرِّها. الحكمة الشعبية أنواع وأشكال .تتطور وتتفاعل مع الأحداث ومع امتداد الزمن. لها قنواتها الخاصة لتصل للجميع .وتتسلل حتى عبر الممرات الضيقة والجدران والأسوار الشاهقة .تمر من الأسواق وعبر القوافل، تدخل البيوت والقصور والجوامع. أمثال وحكم من جنوب المغرب وشماله، صحرائه وسواحله، جباله وواحاته، كباره وصغاره، مدنه وحقوله، وحتى من ملاحاته ومن أضرحته. كيف ومن أين انطلق صوت الشعب هذا؟ ما هي خصوصياته الزمنية والمكانية؟ ما هو نوع الاصطدامات التي كان يواجهها مع القوى السياسية والدينية وحتى التيارات المحافظة داخل المجتمع؟ ”زمان “تنبش من خلال ملف الشهر في الذاكرة الجماعية والشعبية، تاريخ وتراث هائل ولكنه يبقى في الغالب غير مكتوب أو منسي ومهمول.
لا تخلو لغة من أمثال، هي من الأوجه المعبرة عن ثقافتها وعبقريها، والأمثال ضرْب من الحِكم وخلاصة تجربة، ودروس حياة، وعِبر وتأريخ لمراحل حاسمة، ولحظات حازبة، وتعبير عن جمالية لغة وخصوصية ثقافة. تسمى بالعربية بالأمثال أي أنها نماذج تُحتذى، وبالحِكم، ويطلق عليها بالدارجة المثلة (جمع المثول) وكذا المْعاني. تحاط الأمثال في كل الثقافات بهالة، وهي مثلما يقول أبو حيان التوحيدي في “البصائر والذخائر“: مصابيح الأقوال، وهي تعبير عن عبقرية ثقافة. ولذلك، لا تسافر الأمثال، أو لا يمكن نقلها إلا بمعانيها. استأثر الاهتمام بالأمثال في الثقافة العربية منذ بداية التدوين، ويُعتبر كتاب “الأمثال“ لأحمد الميداني (ت. 518هـ/ 1124م) أحد أهم المراجع في الأمثال العربية، وقد أخذ عن سابقيه، واستقى المادة من أفواه الرجال كما يقال، وتوالى الاهتمام بأمثال المُولَّدين والعَوام، ولكن الاهتمام بأمثال العوام لم يرق إلى مستوى الثقافة العالمة التي تجسدها اللغة العربية.
هيئة التحرير
تتمة المقال تجدونها في العدد 89 من مجلتكم «زمان»