بعد شهور قليلة، تكمل مدونة الأسرة عقدها الثاني. ونظرا لتطورات المجتمع المغربي وما تفرضه المتغيرات، يعكف حاليا خبراء في القانون وفقهاء في الدين من أجل الخروج بصيغة جديدة تواكب كل التطورات، وترضي جميع الأطراف. ولفهم هذا الأمر، لا بد من الرجوع إلى طبيعة عمل المشرّع المغربي، وكيفية صياغة القوانين وعلاقتها كذلك بالنصوص الدينية. في هذا الحوار يوضح الباحث المتخصص الحسن رحو الجراري، الإشكاليات التي تحيط بتعديل المدونة، من جذورها التاريخية إلى الإشكالات القانونية في نصوص المدونة الحالية.
لنبدأ هذا الحوار بمحاولة تأصيل أحكام المدونة، لماذا يتم الاستناد إلى الأحكام الدينية في صياغة القوانين المجتمعية؟
إن الكتب الدينية في عمومها هي كتب هداية وعقيدة؛ جلّ موضوعاتها عقائدية لا تخضع لمقاييس العقل ومن ثم لا تقبل الاجتهاد ولا النظر العقلي، إلا ما كان منها إنسانيا اجتماعيا فأحكامه بطبيعتها مدنية متغيرة وخاضعة لمقاييس العقل، ولم يكن إقرارها إلا لتحقيق مصالح الناس.. في حين جعل البعض الناس في خدمة هذه المتغيرات بعد أن جعلها أحكاما مفصولة عن سياقها لتصبح فوق الزمان وفوق المكان في تجاوز لحقيقة أن الإسلام لم يأت بأحكام غير مسبوقة (ولا القرآن كتاب قانون بالأساس ولا هو كتاب طب ولا فيزياء… فهو كتاب هداية)، ولم يشرّع حكما من الصفر؛ بل إنه عندما تطلب من صاحب “الرسالة“ الإجابة عن سؤال الناس في أمر من أمور دنياهم – رغم النّهي عن السؤال – كان يبقى قريبا من المجتمع؛ فيستقرئ الواقع ثم يزكّي ما يراه أفضل الحلول الموجودة – على أساس أن تكون خطوة لها ما بعدها – تاركا للناس إكمال الطريق. لذلك، لا عجب أن آيات العقل في القرآن أضعاف ما يسمى بآيات الأحكام. فإذا كان هذا هو الواقع – وهو كذلك – فلا نفهم كيف أن آخر الرسالات الإسلامية (التي ركنها الأساس – إضافة إلى الأركان القديمة الجديدة – هو تحرير الإنسان من الكهنوت وذلك بإلغائه، وجعل النظر العقلي فريضة دينية على الجميع، ثم القطيعة مع الدولة الدينية)، تحولت معها دول المسلمين إلى دول دينية يتحكم فيها رجال دين. هكذا ينكشف كيف أن توجّه معظم الفقهاء كان توجها معاديا لتوجه الإسلام وللمجتمع وللمرأة بصفة خاصة، توجها مهادنا للمتسلّطين… وهذا التوجّه المعادي للمرأة ساعد على تكريسه حصر الفقه في دائرة الذكور، ليصبح نتاجا ذكوريا بامتياز؛ فهو منتوج لم تشارك في وضعه النساء لأن من شروط الاجتهاد كما توافق عليها: الذكورة، رغم أنه كانت بين نسائهم مثقفات وشاعرات ومحاربات ونساء أعمال وفنانات وداهيات في السياسة… ليصبح مثلا أبو هريرة، ولمجرد أنه ذكر، أفضل من خديجة بنت خويلد، ومن صفية بنت عبد المطلب، ومن عائشة بنت أبي بكر، ومن سكينة بنت الحسين، ومن الخنساء، ومن هند بنت النعمان.
وما هو التصور الفقهي لأحكام الأسرة والمرأة في المدونة؟
لا بد من الإشارة بداية إلى أن الفقه قد صادر النصّ التوجيهي الأساس في الإسلام، حينما أقصاه لصالح نص بديل أقل قوة هو السنة، وتحديدا الأقل موثوقية منها، وأحيانا لصالح أعراف كان تربّى عليها هذا الفقه في بيئة مختلفة حتى عن السياق الاجتماعي القريب الذي جاء فيه النص القرآني، ومنها ضروب من الأحكام في غير بيئتها هي أقرب إلى “الهمجية“، إذا جاز التعبير، مثل إرضاع الكبير، وتزويج الرضّع، والخلط المتعمد في الأنساب بإلحاق أطفال بغير آبائهم، أو بإطالة مدد الحمل إلى آجال غير معقولة… إضافة إلى الأعراف التي تكرّس دونية المرأة بل وعبوديتها لبعلها (زوجها)، حتى إنه يمكن مقابلة نظام الزواج، كما صاغ أحكامه الفقه المسمى إسلاميا، بنظام الرق كما صاغت أحكامه بعض الأعراف والقوانين الطبقية السابقة على الإسلام، مع التنويه إلى أن هذا الوضع الحقوقي المأزوم للأسرة هو وضع من صنع مسلمين وليس من صنع “الإسلام النصّي“ الذي أعطى تصورا راقيا للعلاقات الزوجية ﴿هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ﴾ (البقرة 187)، ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة﴾ (الروم 21)، بخلاف ما أسميه “الإسلام الفقهي“، الذي لو ادّعى إعمال القاعدة التي وضعها المناطقة: «الحكم على الشيء جزء من تصوره»، فإنه لم يستح وهو يضع تصورا للزواج وللأسرة لا منطق ولا أخلاق فيه ولا صلة له بالمرجعية الإسلامية..
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 121 من مجلتكم «زمان»