عاشت استراتجية النضال الديمقراطي، التي تبناها الاتحاد الاشتراكي في 1975، أصعب اختبار عندما قرر الحزب انسحاب نوابه من البرلمان سنة 1981. أظهرت الطريقة التي نفذ بها القرار مدى صعوبة المشاركة في المؤسسات المنتخبة مع الحفاظ دائما على حرية المبادرة داخلها.
تسارعت الأحداث لتجعل من سنة 1981 سنة تفجر التناقض بين التقليد والحداثة، من جهة، وبين تصورين للتغيير والتحديث، من جهة ثانية. لأول مرة استعمل الحسن الثاني صفته «أميرا للمؤمنين» ليقضي بخروج معارضيه من جماعة المسلمين، في خطاب رسمي بثته الإذاعة والتلفزة المغربية. يتعلق الأمر بالنواب البرلمانيين الاتحاديين، الذين قرروا الانسحاب من البرلمان تنفيذا لقرار الحزب برفض التمديد في مدة تلك الولاية التشريعية، رغم أن الملك الراحل أجرى استفتاء في الموضوع جاءت نتيجته لصالح رغبته في التمديد.
لأول مرة، أيضا، يعيش خيار «النضال الديمقراطي» أصعب اختبار منذ تبنيه رسميا من طرف الاتحاديين سنة 1975. أي تأويل يمكن أن يؤول به هذا الاختيار حين تطبيقه عمليا من خلال المشاركة في الانتخابات؟ كيف يمكن تدبيره بالشكل الذي يحافظ على استقلالية الحزب في المبادرة؟ بل ما جدواه الفعلية في تحقيق أهداف التغيير؟
ففي سياق مغرب ما بعد الاستقلال لم تكن المشاركة في الانتخابات، بالنسبة للمعارضة، سوى واجهة من واجهات الصراع مع القصر حول بناء الدولة الديمقراطية، وكان الوجود في المجالس المحلية المنتخبة والبرلمان، أو حتى حكومة التناوب، استمرار لهذا الصراع. كما كانت تلك المشاركة تفيد اعتراف المعارضين بشرعية النظام. من ثمة كانت أهمية الرهان على احتفاظ المشاركين بحرية المبادرة، في هذه العلاقة المعقدة التي يصبح فيها القصر خصما وشريكا في نفس الوقت.
كان اختبار 1981 صعبا لدرجة أن الرجة السياسية والإيديولوجية التي أحدثها ما تزال مؤثرة إلى اليوم. فعلى سبيل المثال رفضت أغلبية المنظمات السياسية، المساهمة في تأسيس حركة 20 فبراير ودعمها، في عام 2011، المشاركة في المسار الرسمي الذي بادر الملك لجعله إطارا للنقاش حول تغيير الدستور، وتغيير مجلس النواب، ثم الحكومة. في خلفية هذا الخيار المقاطع للمؤسسات الرسمية، تحضر آثار النتائج التي أفرزها امتحان 1981. لا طائل يرجى من المشاركة في المؤسسات، بل هي فخ يستدرج إليه الطامحون للتغيير، يسارا ويمينا، ليقع تدجينهم والتحكم فيهم. هذا ما استنتجه فريق ممن عاش اختبار 1981، وسار عليه آخرون طيلة العقود اللاحقة، رغم أن هذا الرأي لم يكن سوى خيار الأقلية.
النضال الديمقراطي
منذ سقوط حكومة عبد لله إبراهيم سنة 1960 أصبح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الحزب المعارض الرئيسي للحسن الثاني. لم يقاطع الحزب انتخابات 1962 الجماعية ولا انتخابات 1963 التشريعية وانتخب بعض قادته البارزين في برلمان 1963، رغم أنهم رفضوا الدستور الذي جاءت في ظله هذه المؤسسات. لكن كل الاتحاديين لم يكونوا على قلب رجل واحد، إذ أسس بعضهم منظمة سرية مسلحة تسعى لتحقيق أهداف الحزب من خلال حرب تحرير شعبية، وحاول آخرون تحقيق هذا المسعى من خلال التنسيق مع عناصر في الجيش بمناسبة المحاولة الانقلابية لسنة 1972. واجه الحسن الثاني هذه المحاولات بعنف شديد وظهر أن خسائرها البشرية والسياسية جسيمة ونتائجها محدودة. بعد محاولة 3 مارس 1973 قرر الحزب حل التنظيم السري بشكل رسمي في اجتماع عقد بالجزائر صيف تلك السنة، ثم تخلى رسميا عن العنف لصالح استراتيجية النضال الديمقراطي، وعن ازدواجية القيادة الحزبية بين الخارج والداخل، لصالح قيادة واحدة في الداخل.
افترض التقرير الإيديولوجي، الذي أقره المؤتمر الاستثنائي للحزب سنة 1975، أن «التحرير لا يمكن أن يتم إلا على درب الاشتراكية، والاشتراكية الحقيقية تستلزم ضرورة الديمقراطية الفعلية». يفصل التقرير هذه المعادلة مضيفا «إن اقتناعنا بأن التحرير والبناء الاشتراكي يجب أن يتحققا بواسطة جماهير الشعب ومساهمتها وفعاليتها، جعل حزبنا يناضل دوما من أجل إجراء انتخابات حرة نزيهة تنبثق عنها مؤسسات تمثيلية حقيقة (…) الانتخابات النزيهة ستكون في ذاتها بداية البداية في عملية تحويل الدولة وأجهزتها ودواليبها وتغيير علاقاتها بالمواطنين. (…) إن أولئك الذين يرفضون الاستشارة الشعبية الديمقراطية هم أولئك الذين انحصرت تقدميتهم في شعارات طنانة فارغة، واقتصر عملهم وسلوكهم اليومي على شل القوات الشعبية المنظمة».
يبدو أن قضية الانتخابات كانت من القضايا الأساسية التي انصب حولها النقاش في مؤتمر 1975. ففي التقرير السياسي الذي قدمه عبد الرحيم بوعبيد أمام المؤتمرين يرد على الرافضين لهذه المنهجية قائلا: «هناك من يدعي بأن هذه الديمقراطية ليست إلا ديمقراطية شكلية، لكن ليسمحوا لنا بالجواب على اعتراضهم، بأن الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لبلادنا، لا يمكن أن تقارن بهياكل الأقطار الغربية، التي استقرت فيها الرأسمالية، وتقدمت أكثر من قرن. فالديمقراطية السياسية، ونقصد بها ديمقراطية أصيلة، لا يمكن إلا أن تعبر، وبالضرورة عن إرادة التغيير، عن الطموح للوصول إلى مجتمع أكثر عدلا. فداخل المجالس المنتخبة سيكون النقاش مجددا حول المشاكل التي تشغل بال الأغلبية الساحقة للشعب المغربي. وهذا هو السبيل الوحيد لبلوغ الديمقراطية الاقتصادية»، استنادا لما أورده الموساوي العجلاوي في «من الاتحاد الوطني إلى الاتحاد الاشتراكي».
في نطاق هذا الاختيار خاض الاتحاد الاشتراكي انتخابات 1976 الجماعية ثم انتخابات 1977 التشريعية، لكن اقتناع مناضليه بسلامة هذا المنهج لا يبدو أنه كان موضع إجماع، خاصة عندما تتأزم الظروف السياسية ويصدر عن الطرف الآخر ما يدعو المترددين للتشكيك في جدوى المشاركة، خاصة اغتيال عمر بنجلون، أحد مهندسي هذا النهج، وتزوير الانتخابات. لذلك جاء البيان الصادر عن اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي بتاريخ 3 يونيو 1977، في إحدى فقراته، بصيغة التأكيد «من جديد» على أن «لا طريق للخروج بالمغرب من الأوضاع المتردية (…) إلا عن طريق الديمقراطية الحق»، وأن هذه الأخيرة «لا تمنح، وإنما تنتزع انتزاعا بالنضال المتواصل في كافة الواجهات، ومن جملتها واجهة المجالس التمثيلية حتى ولو اكتست هذه المجالس عند تأسيسها طابعا غير ديمقراطي البتة». ويذكر البيان أن من مهام الحزب «النضال من أجل تعميق الوعي الديمقراطي بين مختلف فئات جماهير شعبنا». حاولت قيادة الحزب، في اللجنة المركزية والمكتب السياسي، الحفاظ ما أمكن على هذا النهج، بيد أن المعادلة كانت دقيقة. إذ مقابله كان على المعنيين مواجهة أزمات حادة، مثل اعتقال وطرد المشاركين في إضرابات 1979، التي دعت إليها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ثم الأحداث الدامية بمناسبة إضراب يونيو 1981، ومنع جرائد الحزب من الصدور، واعتقال قادته إثر إصدارهم بيانا يرفض ما ذهب إليه الحسن الثاني من قبول الاستفتاء حول مصير الصحراء المغربية. يتذكر عبد الواحد الراضي، رئيس فريق المعارضة الاتحادية آنئذ، أن مقاطعة الانتخابات والانسحاب من المؤسسات المنتخبة، «ظل حاضرا لدى بعض المناضلين الذين لم يستوعبوا خيار النضال الديمقراطي، ويدعون إليه كلما حصلت أزمة سياسية» كما قال لـ«زمان». بدوره يستحضر فتح لله ولعلو، أحد أعضاء الفريق النيابي للحزب آنذاك، تأثير ما كان يصدر عن تنظيم «الاختيار الثوري» الذي أسسه محمد الفقيه البصري ضدا على خيار النضال الديمقراطي ومؤتمر 1975. «كان بعض المناضلين غير مقتنعين بخيار المشاركة، على سبيل المثال، قرر عبد الرحيم بوعبيد الترشح لانتخابات 1977 في مدينة أكادير، بالتحديد، لإقناع مناضلي سوس بأهمية المشاركة. لكن على العموم كان هذا خيارنا الأساسي، ولم يكن الرأي الآخر يتقدم داخل الحزب إلا حين تقع أزمات سياسية، مثلما وقع سنة 1981. كما لا يجب أن ننسى أهمية الواجهة البرلمانية في تقوية حضور الحزب إلى جانب واجهات أخرى في تلك الفترة»، يضيف ولعلو متحدثا لـ«زمان».
تكفير المنسحبين
لم يرتبط قرار الانسحاب من البرلمان، رسميا، بأي من تلك الأزمات السياسية بقدر ما ارتبط بأزمة دستورية، ربما لإظهار أن الانسحاب لا يعبر عن أي تراجع عن استراتيجية النضال الديمقراطي، بقدر ما يروم إبراز تأويل خاص لهذه الاستراتيجية، خلاصته أن المشاركة في المؤسسات المنتخبة، لا تعني توقيع شيك على بياض للطرف الآخر في المعادلة أي الملك، وأن المعارضة يمكن أن تحتفظ لنفسها بحرية المبادرة.
عندما قرر الحسن الثاني تمديد ولاية البرلمان الناشئ عن انتخابات 1977 عامين إضافيين، أجرى تعديلا دستوريا عرض للاستفتاء في ماي 1980، وجاءت النتيجة مطابقة لما أراده الملك. قاطع الاتحاد الاشتراكي الاستفتاء ورفض نتيجته مقررا سحب نوابه من البرلمان على اعتبار أن مدة انتدابهم التي انتخبوا على أساسها انتهت، ولا يمكن تمديدها دون العودة للناخبين. كانت الظروف التي اتخذ فيها هذا القرار جد معقدة، فالحرب مستمرة في الصحراء، وموقف المغرب الرسمي ضعف لحد جعله مستعدا لقبول المقترح الإفريقي بإجراء استفتاء حول مصير أرض ظلت إلى حدود تلك اللحظة جزء من معركة استكمال التحرير والوحدة الترابية. كما أن مواسم الجفاف توالت، واضطرت الحكومة لرفع أسعار بعض المواد الأساسية، فلم يتردد الملك في استعمال كل الوسائل المتاحة أمامه لمواجهة المعارضة، سياسيا وأمنيا.
حين سئل الحسن الثاني، في ندوة صحافية بتاريخ 1 يونيو 1981، عن موضوع انسحاب النواب الاتحاديين، هدد بمتابعتهم قضائيا وحل الحزب تماما. «لو كنت وكيل الملك العام لكنت تابعتهم بتهمة عدم القيام بالمهمة المناطة بهم، وهكذا وابتداء من الساعة التي يغادرون فيها البرلمان فلن تبقى لهم صفة نائب التي سيتجردون منها، ويمكن إذاك أن يذهب المرء إلى أبعد مدى في المنطق فيغلق مكاتبهم السياسية ويحل أحزابهم»، كما قال الملك. لكنه عاد ليستدرك: «لا أعتقد أن رجالا مغاربة سيذهبون إلى هذا الحد، إنهم يتكلمون فقط، لأنه لا يوجد مغربي واحد يقبل أن يسخر الناس منه إذا هو انسحب من مجلس النواب»، كما ورد في «نصف قرن من الحياة البرلمانية في المغرب» لمؤلفه عبد الحي بنيس. كان افتتاح الدورة التشريعية، بعد التمديد، مقررا في 9 أكتوبر 1981، ليقدم النواب الاتحاديون للداي ولد سيدي بابا، رئيس مجلس النواب، رسائل فردية يعلنون فيها انسحابهم من المجلس في 7 أّكتوبر. «أتذكر أنني عرضت مسودة استقالتي على عبد الرحيم بوعبيد لما زرته في سجن لعلو بالرباط حيث كان معتقلا، ووجهني لأغير عبارة «نقدم استقالتنا» بعبارة «نعتبر أن مهمتنا انتهت»، لكي يكون مضمون الرسالة مطابقا للقانون على أساس أننا لا نستقيل من وظيفة بل نكف عن أداء مهمة انتهت وفق الدستور بنهاية مدة الولاية التشريعية»، يوضح فتح لله ولعلو. إلى جانب الهاجس القانوني، يثير عبد الواحد الراضي هاجسا سياسيا جعل تقديم الاستقالات يتم بشكل فردي وليس جماعي، «قررنا أن تكون الرسائل شخصية لنتحمل مسؤوليتها شخصيا، حماية للحزب الذي كان مهددا حينها بالحل». يظهر أن الراضي ظل مع ذلك حذرا في تعامله مع الموضوع إذ صرح لمجلة «جون أفريك» بتاريخ 7 أكتوبر 1981 قائلا «في كل الأحوال سنفعل كل ما بوسعنا للحفاظ على التجربة الديمقراطية التي نعرف محاسنها كما نعرف حدودها». غاب إذن نواب الاتحاد الاشتراكي الخمسة عشر عن افتتاح الدورة التشريعية، في مبادرة فريدة من نوعها جعلتهم يطبقون خيار الحزب الأساسي بالمشاركة في المؤسسات المنتخبة، والاحتفاظ في نفس الوقت بمبادرة الانسحاب منها حين تقتضي الظروف السياسية ذلك. كما عبر ذلك الانسحاب عن مدى الأهمية التي أولاها النواب لقرار اللجنة المركزية للحزب ومكتبه السياسي، ولو عارض استفتاء نظمه الملك ودعا إلى التصويت فيه بنعم وجاءت نتيجته كذلك بأغلبية مطلقة. لعل إدراك الحسن الثاني الأهمية السياسية البالغة لما حدث تفسر رد فعله العنيف.
استهل الملك خطابه أُثناء افتتاح تلك الدورة التشريعية يوم 9 أكتوبر 1981، والذي خصصه بالكامل لهذه القضية، باعتبار هذا الموقف «ضد الدستور وضد الجماعة الإسلامية المسلمة». إن عدم قبول الاتحاديين قرار التمديد، يستتبعه عدم قبولهم نتيجة الاستفتاء حوله، وهذا «استخفاف جماعة برأي الجماعة، وبرأي جماعة المسلمين». ثم يهدد المنسحبين بأن القانون لن يحميهم إن تعرضوا لمكروه، إذ يقول «إذا كان القانون لا يعنيهم فلماذا سيحميهم، فمن تجاهل القانون تجاهله كله. أما أن أقول بوجود قانون حتى تبقى ممتلكاتي في أمن، وحتى أخرج وأذهب للسوق أو للسينما وأرجع إلى بيتي في أمن، وحتى يؤدى الأجر للشرطي ليسهر على أمني، وحتى يؤدى الأجر للعسكري ليسهر على سلامة حدودي فطيب، ولكن قانونا آخر لا أعرفه (يقصد قانون التمديد). «يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض… فمن جهل القانون عليه أن ينتظر أن يجهله القانون». ويعلن تبرءه منهم بصفته أميرا للمؤمنين، «وأنا حينما أفعل هذا وأقول ما أعلم، لا أتبرأ من الأتباع، ولكن كأمير المؤمنين أتبرأ من أولئك الذين كانوا قاعدين هنا وخرجوا من هنا مستخفين بقوانين الدولة، ومستخفين بنتائج الاستفتاء، ومستخفين بجماعة المسلمين».
تراجع المنسحبين
ترك هذا الخطاب العنيف أثره في نفوس المنسحبين فتراجع أحدهم، بعده بيوم أو يومين، عن انسحابه، وتبين أن تماسك المجموعة وصمودها ليس أكيدا، استنادا لما يتذكره فتح الله ولعلو وعبد الواحد الراضي. في تلك الأثناء كان عبد الرحمان اليوسفي، ممثل الحزب في الخارج، عاد للتو إلى المغرب.
اجتمع اليوسفي مع النواب المنسحبين. «استمع إلينا اليوسفي وتبين له الاتجاه العام، أي أننا لن نكون موحدين في المواجهة. أعتقد أنه لم يكن يرغب في أن يحل محل قيادة الحزب»، يوضح فتح الله ولعلو.
بعدها بيوم أو يومين تلقى عبد الواحد الراضي اتصالا من أحمد رضى اكديرة وأحمد بنسودة ومحمد عواد، مستشاري الملك، وطلبوا حضور البرلمانيين الذين كانوا موجودين في الرباط إلى القصر الملكي بفاس، حيث كان الملك.
اجتمع الراضي وولعلو وإبراهيم بوطالب، عن الفريق المنسحب، بمستشاري الملك، وألحوا على ضرورة أن يسمح لهم بلقاء عبد الرحيم بوعبيد للتشاور معه، كما يوضح الراضي. «أوضحنا أننا لا يمكن أن ندخل في تناقض مع ملك البلاد، كما يفهم من خطابه، لكننا اتحاديون نتبع قرارات حزبنا ولا بد أن نستشير قائدنا الذي كان في السجن»، يضيف ولعلو من جهته. صادف لقاء فاس وفاة والدة عبد الرحمان اليوسفي في الدار البيضاء. أثار غياب الراضي وولعلو وبوطالب حفيظة المناضلين، وبدأت الشكوك تساورهم حول مدى صمود المنسحبين. «رغم أننا كنا ندافع عن وجهة نظر الحزب في لقائنا مع مستشاري الملك»، يستدرك الراضي. لم يسمح للمنسحبين بزيارة عبد الرحيم بوعبيد، وخضع بضعهم لضغوط قوية لثنيهم عن الاستمرار في الانسحاب، ثم فتحت أمامهم إمكانية التراجع، عندما استدعاهم رئيس مجلس النواب لحضور جلسة خاصة فرضتها تطورات الحرب في الصحراء المغربية في 13 أكتوبر 1981. قرر المنسحبون العودة للبرلمان، بما أن الأمر يتعلق بالقضية الوطنية، لكن دون أخذ الكلمة. وحده محمد منصور، عضو المكتب السياسي الذي لم يجر اعتقاله رفقة بوعبيد ومحمد الحبابي ومحمد اليازغي، امتنع عن العودة نهائيا للبرلمان. «قررنا العودة كأفراد وليس كفريق، وكان قرارنا هذا مؤقتا في انتظار أن نجتمع بقيادة الحزب»، يوضح الراضي.
قابل الملك هذا التنازل الأول للمنحسبين بعنف، فأخضع عددا من النواب المجتمعين في منزل عبد الواحد الراضي، بعد عودتهم من تلك الجلسة، لإقامة جبرية، قطع خط الهاتف وطوق رجال الشرطة البيت. تماما كما خضع الذين لم يسعفهم الوقت للالتحاق بالاجتماع في بيت الراضي، لإقامة جبرية في بيوتهم. استمر هذا الوضع حوالي 15 يوما، إلى أن رفع الحصار، وتلته عودة النواب إلى البرلمان دون أن يأخذوا الكلمة في اجتماعاته. «لا أدري ما الذي جعلهم يرفعون الحصار عنا. أتذكر أن عبد الرحمان اليوسفي زارني في بيتي حيث كنت محتجزا لكنه لم يدل بأي رأي حول ما يجب أن نقوم به»، يتذكر ولعلو. في حين يذكر الراضي «كنا ننتظر تضامنا شعبيا وحزبيا معنا ونحن محتجزون، وهو ما لم يحصل». يشير العجلاوي إلى بلاغ صادر عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي بتاريخ 19 أكتوبر 1981 يعلن أن «عودة النواب بصفتهم الفردية، وتحت ظروف استثنائية خاصة، لا تعني إطلاقا عودة الاتحاد أو فريق المعارضة الاتحادية بوصفه فريقا اتحاديا يعبر عن آراء الاتحاد ومواقفه».
انفجار الأزمة
يبدو أن هذا البلاغ لم يكن يعبر تماما عن ردود الفعل تجاه تراجع النواب عن تنفيذ قرار الانسحاب، ولو أنهم عادوا دون أخذ الكلمة. «شعرت بصدمة حقيقية عندما علمت أن أعضاء الفريق عادوا إلى البرلمان، بينما كنا التزمنا جميعا بالانسحاب وقد بعثت رسالة انسحابي من السجن. كنت مقتنعا أنه لو صمد الفريق الاتحادي لاضطر الحسن الثاني للتراجع عن موقفه العنيف»، يقول محمد اليازغي لـ«زمان».
«صدم» عبد الرحيم بوعبيد من «تخاذل» البرلمانيين، وفق تعبير أحد اللذين زاروه في السجن أثناء الأحداث. شاع الاستياء في أوساط مناضلي الحزب وبدأ من يطالب بطرد البرلمانيين من الحزب. بعد الإفراج عن بوعبيد في 3 مارس 1982 طلب من فتح لله ولعلو أن يجمد عضويته في اللجنة الإدارية تبعا لما حصل. «زرت عبد الرحيم في بيته يوم أفرج عنه، وفي اليوم الموالي اتصل بي وطلب مني بكل لباقة أن أجمد عضويتي في اللجنة الإدارية. كتبت رسالة التجميد كما طلب. لكن بعد يومين عاد ليخبرني أن المكتب السياسي قرر استئناف نشاطي في اللجنة الإدارية. لا أدري ما الذي حصل مع الآخرين لكن هكذا تعاملت معي قيادة الحزب. في العمق كنت مقتنعا أن عبد الرحيم لو كان حرا خارج السجن لوافقنا في الطريقة التي نفذنا بها قرار الانسحاب»، يتذكر فتح الله ولعلو.
كان موقف بوعبيد أساسيا مما حصل، إذ أنه لعب الدور الأبرز في تجسيد خيار النضال الديمقراطي والدفاع عنه في مؤتمر 1975، إلى جانب عمر بنجلون، وبمباركة عبد الرحمان اليوسفي، مقابل الاختيار الثوري الذي جسده محمد الفقيه البصري. «شكل اعتقال والدي بداية بروز وعيي السياسي. أذكر أنني كنت أتابع الأحداث وما تكتبه الصحف يوميا. أذكر أنه كان محبطا جدا من سلوك البرلمانيين لكنه استسلم للواقع، إذ لم يكن له خيار آخر وهو في السجن. بعد الإفراج عنه، أذكر أنه قال لي بهذا الخصوص ما معناه: «لا يجب أن ننسى أن الإنسان ضعيف ولا يمكننا معرفة ضعفه إلا عندما يمتحن». بيد أنني لا أنكر أن الضغوط على البرلمانيين كانت قوية والظروف صعبة»، يقول علي بوعبيد، نجل عبد الرحيم، لـ«زمان». حين سأل محمد بنسعيد آيت يدر، زعيم منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، بوعبيد عن جدوى الاستمرار في المشاركة الانتخابية أثناء زيارة تضامنية بعد الإفراج عنه، رد الزعيم الاتحادي بما معناه «كم من مظاهرة خرجت للتنديد باعتقالنا؟ ولا واحدة»، وأضاف «حتى البرلمانيين الملزمين بقرار حزبي للانسحاب من البرلمان رجعوا إليه. هذا واقع التجنيد في المغرب، ويجب أخذه بعين الاعتبار» وفق المعنى الذي يتذكره شاهد حضر اللقاء. بقي بوعبيد ومعه قيادة الحزب أوفياء لخيار النضال الديمقراطي، وشارك الاتحاد في انتخابات 1983 الجماعية ثم انتخابات 1984 التشريعية، بيد أن آثار ما حصل سنة 1981 امتدت عميقا لتساهم في أول انشقاق يعرفه الاتحاد الاشتراكي بعد 1975. يورد العجلاوي مذكرة صدرت باسم الكتابة الإقليمية للحزب بالرباط، في يناير 1983، تمحورت حول الموقف من انسحاب ثم عودة البرلمانيين الاتحاديين. من خلاصات المذكرة أنه «لا يمكن الفصل بين الخط الديمقراطي والخط النضالي الثوري، إلا إذا تحول الخط الديمقراطي إلى خط انتخابي يفتقر إلى أي نوع من المبادرة ويرهن نفسه بالمسلسلات الانتخابية التي تحدد الطبقة الحاكمة شروطها». تفجرت مواجهة حادة بين المدافعين عن هذا الخط وأغلبية أعضاء الحزب، انتهت بانشقاقهم وتأسيس حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي.
استمر الأخير على منهجه في مقاطعة الانتخابات، مواجها نفس التحدي الذي واجه المشاركين، كيف يمكن إقناع المواطنين وتعبئتهم حول هذا الخيار أو ذاك. لعل من مكر الصدف أن السنة التي شهدت تراجع الاتحاد الاشتراكي بعد تصدره المشهد السياسي لسنوات طويلة، كانت نفسها السنة التي تراجع فيها المنشقون عنه لأول مرة عن مقاطعة الانتخابات.
يتعلق الأمر بالانتخابات التشريعية ليوم 7 شتنبر 2007، والتي لم تتميز فقط بتراجع الاتحاد من الرتبة الأولى سنة 2002 إلى الرتبة الخامسة، بل أيضا بفشل أحمد بنجلون، أمين عام حزب الطليعة آنئذ، وعبد الرحمان بنعمرو، الأمين العام الحالي للحزب، في الفوز بمقعد نيابي في دائرتي الرباط اللتين ترشحا فيها.
لئن تجلت أزمة المقاطعة في افتقاد الوسائل اللازمة للتعبئة والتواصل مع المجتمع، فإن أزمة المشاركة تجسدت، مرة أخرى، سنة 2002 حين شارك الاتحاد الاشتراكي في حكومة إدريس جطو رغم موقفه الرافض لتعيينه وزيرا أول. ظهرت مرة أخرى صعوبة التحكم في تدبير المشاركة في المؤسسات والحفاظ على المبادرة.
إسماعيل بلاوعلي