لم أشارك في مسيرة 11 يناير. لست شارلي. إنه خيار اتخذته وأتحمل مسؤوليته، إنه خيار فلسفي وروحي، في ذلك الأحد الذي لم يكن «معقولا سياسيا».
ما بين السبت والأحد، تلقيت سيلا من الرسائل على البريد الإلكتروني تدعوني للتوقيع على عريضة «أنا شارلي». لم أجب، في الوقت الذي أصبحت متيقنة بفضل الويب أني الآن مدرجة على لائحة الذين لم يجيبوا، أي الذين رفضوا التوقيع، أي الذين رفضوا حمل هوية «أنا شارلي»، الشعار الذي تبنته الحشود وظل ثابتا غداة الكارثة. عبرت حملة التوقيعات تلك عن قلق عميق، شبه صبياني وخطير، على اعتبار أنها تنفي الاختلاف تعقد الهويات، تنفي تعقد الانتماءات.
أسبوع بعد 11 يناير، اقترحت 7 نقط للتفكير.
أولا، في جميع الأزمنة وجميع الأوقات، كان كبار الرجال الروحيين وكبار حكماء كل الديانات وكبار حكماء الإنسانية يعبرون، دائما، عن حبهم واحترامهم لكرامة الكائن الإنساني وللعالم، واعين بمسؤوليتهم الصريحة والحقيقية أمام لله، الذي يدين القتل والاغتيال. من جهته، كل إنسان، كان رجلا أو امرأة، الذي يعلن أنه مواطن/ة عالمي/ة، باسم إنسانية معينة، باسم تمثيلية معينة للبشر والعالم، باسم مسؤوليته الشخصية، ثقافته وقناعته، يدين القتل والاغتيال.
ولا يمكننا إلا أن ندين عمليات القتل والاغتيال التي حدثت يومي 7 و9 يناير.
ثانيا، وقعت مجزرتا 7 و9 يناير باسم الدفاع عن ديانة ما، الإسلام ونبيها محمد. إحداها كانت ضد أسبوعية «شارلي إيبدو» وضد رئيس تحريرها ستيفان شاربوني، والثانية ضد متجر صغير «هيبركاشر» (متجر يبيع سلعا موافقة للشريعة اليهودية)، أي ضد أشخاص يهود. كانت أسبوعية «شارلي إيبدو» لا يقرأها أحد تقريبا، بوصفها صحيفة مبتذلة، وتثير الانتقاد بسبب فظاظتها وتهجمها على المعتقدات الدينية وعلى كل سلطة وكل مؤسسة، لم تعد تضحك إلا عددا محدودا من الأشخاص، وكانت على حافة الإفلاس.
غير أن اغتيال أولئك الصحافيين ورسامي الكاريكاتير جعل من الأسبوعية «شهيدة»، وكان واضحا أن زملاءهم الصحافيين عبروا عن دعمهم لهم بحكم الانتماء لنفس المهنة. لا يجب نسيان أن المجزرة خلفت، أيضا، ضحايا آخرين، وتحدث عنهم القليلون، كأن كان هناك «ضحايا حقيقيون»، هم الصحافيون، و«ضحايا جانبيون»، خاصة رجال الأمن الذين كلفتهم الحكومة الفرنسية بحماية الأسبوعية، وفيما يخص الضحايا اليهود فقد تم تجاهلهم بشكل كبير.
حرية الصحافة، حرية التعبير كقيمة أساسية للجمهورية، هما المفهومان اللذان حولا «شارلي إيبدو» إلى رمز. متشبثة باحترام المعتقدات والثقافات، باحترام كرامة المؤمنين وغير المؤمنين، لم أقدر أبدا حين أشاهد، في صحيفة مكتوبة أو في نشرة تلفزيونية، رسما كاريكاتوريا مستفزا.
تتهجم الرسوم «الحرة» لـ«شارلي إيبدو»، بشكل فظ، على الإسلام والمسلمين، هدفها المفضل، أكثر من المسيحية والمسيحيين، ونادرا ما تهاجم اليهود.
إذا لم تكن الإساءة للأديان جريمة في فرنسا، فهل التهجم على الآخر، وعلى ما هو مقدس، حق من حقوق الإنسان؟
يوم الأربعاء 14 يناير، أسبوع بعد مجزرة 7 يناير، تم سحب 5 ملايين نسخة من العدد الجديد لـ«شارلي إيبدو»، والذي تضمن، مرة أخرى، رسما كاريكاتوريا للنبي محمد.
لا يمكن إلا أن نحس بالفزع وبالغضب، أيضا، أمام سبة أخرى، والتي لا يمكن، كما قال جامع الأزهر وهو أكبر سلطة سنية، إلا أن «تؤدي إلى تأجيج الكراهية. ولا تخدم التعايش السلمي بين الشعوب». فيما وصف البابا فرانسوا «حدود» حرية التعبير، في إجابته على أسئلة الصحافيين حين كان في الطائرة التي أقلته إلى الفلبين يوم 15 يناير، بالقول «لا يمكن أن نسب إيمان الآخرين». في اليوم ذاته، وأثناء تواجدي في برشلونة، لاحظت أن زملائي الجامعيين الإسبان يتقاسمون وإياي نفس الإحساس بالذعر.
ثالثا، كتب رئيس مؤسسة روبير شومان، يوم 11 يناير، ربما تحت تأثير الانفعال –لكن نعرف أن الانفعال كما هو مدهش يمكن أن يؤدي إلى اللامعقول- أنه تم تحدي الحرية وتم الهجوم عليها -مع وضع سطر بالبنط العريض على الحرية- «وللدفاع عن تلك الحرية كانت تلك الانتفاضة الجماهيرية للشعب الفرنسي ضد اعتداءات باريس».
ما هي هذه الحرية؟ هل تعني الحق المطلق في صدم وجرح الآخر؟
هنا تفسير خاطئ وغامض، بل خطير، لمفهوم الحرية.
رابعا، لقد جعلت وسائل الإعلام من «شارلي إيبدو» شهيدة، كما وصفت صحافييها بأنهم رجال «أحرار»، لأنهم مشككون ولا يؤمنون بأية عقيدة وعلمانيون، ويمتلكون «فكرا سياسيا قويا وشجاعا». هؤلاء الرجال الأحرار هم من زرعوا سخرية سطحية وفظة، ويسكنهم هاجس ضد المسلمين، الذين حولوهم إلى إرهابيين وأغبياء، ويعيشون، فقط، بمساعدات الدولة.
الحرية، وفق «شارلي إيبدو»، تدعو إلى ممارسة القتل الرمزي، بدون أدنى تقييم للفوضى والتطرف الذين سينتجان بالضرورة. إذا كان المسيحيون يفضلون تجاهل رسومات تسخر منهم، فإن الكثير من المسلمين يعلنون أن الرسومات الكاريكاتورية لنبي دينهم تجرحهم، في نفس الوقت الذي تؤثر فيهم، بشكل عميق، أحداث سوريا والعراق.
خامسا، «شارلي» ليست هي الحرية؟ كيف يمكن تعريف الحرية؟ تندرج الحرية في إطار عريض، يحكمها العقل، وبالتالي المسؤولية واحترام كرامة الآخر. لا توجد حرية بدون عقل. لا توجد حرية بدون مسؤولية، بدون عدالة –أفضل هذا اللفظ على مساواة-، بدون تضامن –أفضل هذا اللفظ على أخوة-، لأن علم مصطلحات الثورة الفرنسية يحيل على «الأخوة أو الموت». لا توجد حرية بدون احترام الآخر، لكرامته، لاختلافه، لقيمه، لمعتقداته ولممارساته. لماذا تكون الحرية، دائما، بجانب عدم الإيمان، الكفر والسخرية؟ يوم 11 يناير 2015، وعلى قناة «تيفي آرتي»، أحببت حين ذكر الحكيم سليمان بشير ديانغ، بهدوء، برغبة المفكر المسلم الكبير أبو حامد الغزالي، وهو فيلسوف وصوفي من أصل فارسي، التأسيس بطريقة فلسفية أي طريقة ذكية ومنطقية، لعلم اللاهوت والدين.
وانطلق الغزالي من كون التفكير الحر في طرح الأسئلة، وفي المجادلات، وفي إصدار أحكام، هو أحسن وسيلة للمعرفة، ويسهم بالتالي، بكل حكمة واحترام، في الدفاع عن الدين ضد كل دوغمائية.
سادسا، هل يمكن أن يقبل المنطق السخرية كممارسة للقتل الرمزي، جارحة وقاتلة. لا توجد حرية بدون ذكاء وحكمة الروح والقلب. يجب ممارسة حرية التعبير في إطار احترام مسؤول لكرامة الآخر، لكل الآخرين، دون إلحاق الضرر بالعيش المشترك، دون السخرية مما يعتبره الآخرون مقدسا.
السخرية تقصي، دائما، من تعرض لها.
إذا كانت «شارلي» هي فرنسا، فإن الفرنسيين، الذين يدينون بالإسلام، لا يمكن إلا أن يحسوا بأنهم مقصيون من الأمة، ومن المجتمع الوطني.
كيف يمكن أن أحس أني عضو في المجتمع الوطني، إذا كانت مهاجمة الآخر فيما هو مقدس لديه يجب اعتبارها حقا من حقوق الإنسان وتحميه الجمهورية الفرنسية؟
أوربا هي حديثة الآن، أوربا هي متعددة، فرنسا هي حديثة، أيضا، ومتعددة. فمتى يمكن أن توجد «فرنسا الخالدة» تلك التي سلط الإعلام عليها الضوء في وصفه لتجمع 11 يناير؟ هذا السؤال التاريخي، لا يمكن الإجابة عنه، إلا بالعودة لكل مراحل البلاد، ابتداء من الإمبراطورية الرومانية، المماليك البرابرية، شارلمان، الجامعات اللاتينية التي تغذت بالأفكار اليونانية والعربية، توالي تحول المملكة إلى بوتقة حقيقية انصهر فيها الكثير، ترحال الناس إلى حدود الحروب الأهلية، زمن النهضة وما بعده إلى حدود الحروب الأوربية، الثورات المتتالية، الدساتير المتتالية… كل هذا أسهم في الوصول إلى فرنسا اليوم التي أصبحت تضم خليطا من الناس أكثر من الماضي.
هكذا، تسهم السخرية القاتلة، بطريقة تثير الاشمئزاز، في تعطيل التجديد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في أوربا وفرنسا، في بداية القرن الواحد والعشرين، والذي بدأ فيه الإسلام المتنور يلعب دورا ضروريا.
ألا تقوض هذه السخرية الإبداع السياسي، الفني، الاجتماعي، الثقافي والديني للأوربيين والفرنسيين المسلمين، وبالتالي كل الأوربيين والفرنسيين.
سابعا، هناك، إذن، عمل عاجل وكبير لتربية العقول والقلوب، للتكوين على الحرية، على المسؤولية، على العدالة، على التضامن. كل ذلك من الشروط الضرورية للحياة والعيش مجتمعين، اليوم وغدا، في فرنسا وأوربا والعالم.
في زمن أصبح بدون ثقافة، أكثر مما ينبغي، وأصبح بين أيدي أقلية متوحشة، من النيوليبرالية الفردانية إلى التطرف الهدام، أصبحت السياسة تعمد إلى الدخول في تكتلات، حتى لا تؤمن سير الوظائف المكلفة في الصحة والتعليم والشغل للجميع، وهي القطاعات، التي يمكن أن تؤدي في حال تأمينها إلى التوزيع العادل للثروات المادية وغير المادية. لا يجب نسيان أن الشبان الفرنسيين القتلة، يومي 7 و9 يناير، ولدوا وترعرعوا وتربوا في فرنسا، حتى ولو أنهم تدربوا على استعمال السلاح في ضيافة تنظيم القاعدة في اليمن. أصبح عاجلا أن نستنج الدروس من فشل فرنسا العميق في نشر المعرفة، وتوزيع ثرواتها اللامادية، وفي تكافؤ الفرص، في مجتمع أضحى، بفعل النيوليبرالية، غير متساو.
خاتمة
أعتبر، شأني في ذلك شأن أوليفيي أروا، أنه لا توجد «جالية مسلمة» في فرنسا، كما أن المسلمين ليست لهم أية رغبة في أن يتكتلوا في جالية. أتفق مع عالمة الاجتماع، أمل بوبكر من مركز جاك بيرك في العاصمة المغربية الرباط، بكون المواطنين المسلمين، كالآخرين، موحدين ضد الإرهاب. وفي فرنسا، في مدنها والضواحي، يمكن للناس العيش معا بدون مشاكل، غير أن وسائل الإعلام، في المقابل، يمكنها أن تغذي الاستياء و«الإسلام فوبيا».
يجب تحقيق ثورة سياسية تفصل بين الثقافة والتواصل، تفضل التربية، وتعلم فن الجوار وفن الجدل غير القاتل. في فرنسا المتعددة، لا يجب على الفرنسيين، الذين يدينون بالإسلام، الخوف من الانخراط في النقاش العام وشرح مواقفهم المتعددة. إنه حقهم المطلق. يدرك الاقتصاديون أن الإسلام، بإنسانيته الروحية وباقتصاده التشاركي، يمكن أن يشكل طاقة خلاقة في التغييرات الضرورية للقرن الواحد والعشرين. «إنه العدالة التي يجب أن تكون في المركز، لأنها شرط السلام»، كما يقول محمود عزاب مستشار الإمام الأكبر في الأزهر الشريف بالقاهرة.
الفكر الإسلامي يشارك في هذه العدالة، وفرنسا في حاجة إلى كل الفرنسيين.
أنا لست شارلي.
دومنيك دو كورسيل
باحثة في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، وأستاذة بجامعة باريس دوفين، وعضو مؤسس بالمعهد الفرنسي للتمويل الإسلامي