أي وظيفة تلعبها النخب السياسية في مغرب اليوم؟ سؤال إشكالي قد يبدو، للعارفين بالوضع السياسي المغربي، ساذجا أو ساخرا. فما يراه الملاحظ النبيه للمشهد السياسي المغربي هو حركية محمومة ومواجهات كلامية صاخبة ومعارك كبيرة حول قضايا صغيرة بين تشكيلات مختلفة، بل حتى داخل نفس التشكيلة، إلا أن الوقع الفعلي لكل هذا على مجريات الأحداث التي تعتصر المجتمع من أعماقه ضئيل إن لم نقل هامشي.
المشهد السياسي مفهوم تواصلي، فهو الصورة التي يشكلها الإعلاميون للحقل السياسي، وغالبا ما تكون هذه الصورة «مخدومة» إلى حد ما، وغير مطابقة تماما للحقل السياسي برهاناته وتركيبته وفاعليه، كل فاعليه.
يحاول النشطاء في المشهد السياسي تقمص أدوار فاعلين سياسيين في حقل سياسي مثالي لا تضبطه إلا قوانين ديمقراطية، في إطارثقافة سياسية واضحة وشفافة، قد تكون حداثية وعقلانية. فيتبادل النشطاء الأدوار، يتقمص هذا دور الأغلبية وذاك دور المعارضة.
فيتحول حليف الأمس إلى خصم اليوم، بينما الديناميات الفاعلة في قلب الدولة وعمق المجتمع سارية بدون تغيير. هكذا يبدو لجزء من المغاربة الذين يهتمون بالشأن العام أن المباراة التي يخوضها المغرب، ككيان وكشعب، مباراة مصيرية إلا أن نشطاء المشهد السياسي غير منخرطين فيها، فمعظمهم إما في حالة شرود أو مجرد متفرج ثرثار. والمشهد الإعلامي المغربي مليء بالبرامج وبالخرجات التي يتنافس فيها السياسيون على إنتاج الرداءة والقرف. في مقابلة تلفزية بين حزبين في الحكومة وحزبين خارجها، عُوض الحوار السياسي بالمبارزة، وهزلت الحمولة الثقافية للمتبارزين، وعوض الإعلان عن دخول سياسي واعد تم التواطؤ على السياسة في درجة الصفر. ففعل فرسان الرداءة فعل طفيلي في الواقع، ولا يغذي في النهاية إلا النزعات العدمية، فتفقد السياسة ونشطاؤها ما تبقى لهم من مصداقية، ويجني المحافظون ثمار ذلك بتزكيتهم للعزوف عن الاهتمام بالشأن العام، ولسان حالهم يقول «لعن لله الساسة والسياسيين، العلمانيين والإسلاميين، الحكوميين والمعارضين، الناخبين والمنتخبين». وبذلك تفرض الوصاية على عموم الشعب، وتدير شؤونه جهات لا تساءل ولا تحاسب، وتحسم مصيره في دوائر قرار لا يعرفها إلا المقربون.
ليست المعضلة في تسلل بعض الانتهازيين والانتفاعيين إلى الحقل السياسي، وتبوء بعضهم مواقع صدارة، بل المعضلة في عدم إدراك نخب هذا البلد ميكانزمات تشويه المشهد السياسي لدرجة غربته الفاقعة عن حقيقة الحقل السياسي المغربي. لنستحضر بعض القضايا الكبرى التي تمس عمق البنيات المغربية مجتمعا ودولة:
– إعادة النظر في «العقد الاجتماعي» الضمني الذي أسس لما يمكن نعته بـ«الاستقرار النسبي» للأوضاع في المغرب منذ الاستقلال، عبر ما يسمى بإصلاحات «صندوق التقاعد» و«صندوق المقاصة».
– محاولة إيجاد حل لفشل «منظومة التربية والتعليم» والمراهنة على أن المداخل قد تتصدرها مراجعة لغة التلقين ومجانية الخدمات.
– محاولة إيجاد حل قار للنزاع حول الصحراء عبر تصور جديد للجهوية، وما يصاحب ذلك على مستوى الانتماء للهوية الوطنية الموحدة والهويات المحلية والثقافية والإثنية.
– محاولة إيقاف تفاقم الفوارق الاجتماعية وسوء توزيع الثروة الوطنية، ورصد منابع «الثورة اللامادية» للمغاربة، بحثا عن سبيل لتطوير إنتاج الثروة ومحاربة الفقر والهشاشة.
– محاولة إيجاد توازن بين الشرعية التاريخية للملكية والشرعية الشعبية لإعطاء مصداقية للنظام السياسي المغربي.
– البحث عن موارد مالية جديدة، خارج المديونية، لتجنب الإفلاس المالي للدولة، خصوصا وأن البلد لم يعد له ما يخوصصه سوى الفوسفاط والسكك الحديدية.
في ظل تحديات وإكراهات من النوع الذي تحيل عليه القضايا المثارة أعلاه، لا نظن أن المغرب يستحق النخب التي تتراقص في المشهد السياسي المغربي، والتي لا تنتج إلا الصراخ والغوغاء.
وجودها، طبعا، ليس صدفة، بل هو نتاج وضعية تردد أمام العبور الفعلي إلى العصر. ولذلك، فوظيفتها الفعلية هي حجب الرهانات الكبرى التي تتطلب القطيعة مع أساليب الخداع والتكتكة والنفس القصير.
بدون القطيعة مع هذه الثقافة التي ترعاها كل التوجهات المحافظة، ولو بخطاب يساري، فإن المغرب سيستمر في إنتاج نفس الأزمات، وسيظل ينتقل من إصلاح فاشل لأفشل منه.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام