ما يجمع لمغرب والجزائر ثقافيا أكبر مما يفرقهما، يلتقيان في اللغة والثقافة والتاريخ، وتتداخل مكوناتهما حتى ليعسر التمييز بينهما، فللتلمساني أوجه قرابة مع الفاسي أعمق مما قد يجمعه مع الشاوي أو المزابي، وقد لا يشعر الريفي وهو يحدث القبائلي بأدنى اختلاف في الطبع واللسان، مما قد يجده مع مواطن له من دكالة أو عبدة. ما يفرق البلدين هو بناؤهما السياسي أو الإيديولوجي. انبنت الدولة المغربية على الاستمرارية من خلال الوفاء للتاريخ، والإبقاء على الأداة التحديثية التي تركها الاستعمار، وانبنت الدولة الجزائرية على القطيعة، وعلى معانقة الإيديولوجية القومية العربية، وانغمارها في أتونها ودعاويها للممانعة وللصمود والتصدي ضد الأنظمة «الرجعية و أذناب الامبريالية» وهلم جرا من الخطب التي نعرف اليوم مآلها.
رغم كل الأساليب الدبلوماسية التي أبداها كل من المرحومين الحسن الثاني والهواري بومدين، وتجاوزهما لكثير من المشاكل ومنها الحدود، كانت الغلبة لما يرمز إليه الشخصان اللذان كانا يجسدان نظامين، ويمثلان نموذجين، وبرزت تلك الاختلافات في مؤتمر عدم الانحياز المنعقد بالجزائر سنة 1973، والذي جفاه الملك الراحل، وظهرت في القمة العربية التي احتضنها المغرب، سنة 1974، حيث غادر الرئيس هواري بومدين غاضبا قبل انتهاء الأشغال، وانفجرت مع قضية الصحراء بعدها. لا أمَلُّ من تكرار أن قضية الصحراء ليست هي جوهر المشكل ما بين المغرب والجزائر، بل هي إحدى صوره، ولا يزال من هم في سني يذكرون حديثا لبومدين في مجلة إفريقيا-آسيا في منتصف 1975 حيث انبرى الرئيس الجزائري في لهجة حادة ينتقد نظام المغرب «الذي ينخره الفساد» حسب تعبيره، ولم تسلم الأسرة المالكة من انتقاداته اللاذعة. وقد استمر هذا الخطاب، ليس من أجل مساندة «الشعب الصحراوي» ولكن من أجل فك العزلة الذي يريده «الأخطبوط الإمبريالي والرجعي أن يطوق به الجزائر». كان رد المرحوم الحسن الثاني لا يخلو من سخرية على هذه الادعاءات: «إنها المرة الأولى في تاريخ البشرية حيث يتهدد نظاما جمهوريا نظامٌ ملكي، ونظامٌ محافظ نظاما ثوريا».
مع نهاية الحرب الباردة وانخفاض أسعار المحروقات، مما أثر على البنية السياسية للجزائر، من خلال أحداث أكتوبر 1988، والتي عصفت بكثير من يقينيات النظام الجزائري سواء على مستوى النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، أو الخيارات الاقتصادية، بدت هناك معالم انفراج بين البلدين، وهي التي هيأت إلى التقارب الثنائي ثم الإقليمي من خلال إرساء نواة الاتحاد المغاربي، لكن التطورات التي عرفتها الجزائر بعدها، جعلتها، فيما يخص علاقاتها بالمغرب، تعود إلى الأنموذج القديم القائم على إبقاء جذوة التوتر، والتحكم في درجتها. هكذا تم تحييد كل دعاة التقارب، عُزل الشاذلي بن جديد، واغتيل محمد بوضياف، وتم إغلاق الحدود بين البلدين سنة 1994.
انقشع أمل مع وصول رجل لقصر المرادية له وشائج عميقة مع المغرب، بل مع الأسرة المالكة، وبخاصة بعد أن أزيح من سباق الرئاسة بعد موت بومدين، وعاش متنقلا بين المنافي. ولكن الأنموذج ما لبث أن عاد من خلال توظيف حادث على مستوى بني ونيف حينما قتلت عناصر من الجماعة الإسلامية المسلحة عناصر من الدرك الجزائري، وزعمت الوكالة الفرنسية للأنباء أنهم تسللوا إلى التراب الوطني، في عملية مريبة، تُظهر رغبة الأمنيين، آنذاك،هنا وهناك، في استمرار التوتر. ركب الرئيس الجزائري رأسه، وبعث رسائل من بشار غير بعيد عن التراب المغربي، في شتنبر 1999، يتهم فيها المغرب بأقبح النعوت. كانت الغاية هي أن يدلل أنه لن يخرج عن الخط العام، أو الأنموذج. تبين فيما بعد، من خلال ما عبر عنه محمد العماري، الرجل القوي في الجيش آنذاك، أن لا علاقة للسلطات المغربية فيما زعمته الوكالة الفرنسية من تسلل العناصر الإرهابية أو تستر السلطات المغربية عنها. لم تكن الوكالة طبعا تتصرف من تلقاء نفسها، ولكن انطلاقا من أجندة معينة. والمهم بالنسبة لأصحاب القرار في الجزائر ليس هو الحقيقة، ولكن الإبقاء على الأنموذج.
لا أزال أذكر، خلال عشاء نظمه محمد الشرقاوي في ماي من سنة 2004، وهو شخصية نافذة، شغل منصب وزير الخارجية، وله علاقات وثيقة مع أطياف الجسم السياسي الجزائري، حضره المؤرخ الجزائري محمد حربي، وقد أسر إلي هذا الأخير، بمعية مسؤول مغربي، أن علينا كمغاربة أن نخدم بلدنا، وألا ننتظر شيئا من الفريق الحاكم في الجزائر.
كان موقف محمد حربي يصدر من شعور طالما خامر رعيل الاستقلال من وحدة الوشائج، ومن ثمة المصير.
للأسف الشديد كان حربي مصيبا في حكمه، إذ يُظهر حادث إطلاق النار على مواطن مغربي مدني أن لا أمل يرجى في الفريق الماسك بزمام الأمور في الجزائر، وأن لا خيار لنا إلا أن نُنجح نموذجنا، ونمضي قدما في مسلسل التحديث. لا خيار لنا، من أجل بلدنا، ومن أجل محيطنا، لهؤلاء الذين يشرئبون إلينا ويضعون أملهم فينا.
يذكر التاريخ نموذجين لمدينتين جمعتهما الثقافة وفرقت بينهما الإيديولوجية، هما أثينا وسبارطة. اختارت أثينا خيار العقل والحرية والديمقراطية والارتقاء بالإنسان، ونحت سبارطة نحوا آخر، هو العسكرة والتسلح. هي أثينا من يرمز للعبقرية الهيليينية، وليست سبارطة، وهي من يذكر التاريخ وليس سبارطة.
ويصدق فيما حدث قول المتنبي:
قصدوا هدم سورها فبنوه وأتوا كي يُقصّروه فطالا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير