حتى لما كان منغلقا تماما على العالم الخارجي، لم ينج المغرب من الاختراقات الجاسوسية المتكررة. كيف ولماذا ؟
التجسس أمر طبيعي، بمعنى جاري به العمل في منطق الدولة، وإن كان لا أخلاقي من منظور إنساني محض. الدولة شيء آخر، كائن معنوي فقط، يشتغل بمنطق المواجهة والتي تتحول إلى حرب، باردة كانت أم حقيقية. والتجسس، أي استخراج المعلومة السرية، ولو “من قاع الخابية“، تبقى وسيلة حرب، أو أداة من أدوات المواجهة. بل هناك من يصنف التجسس ضمن وسائل الدفاع عن النفس، والمقصود هنا أمن الدولة ومصالحها العليا. جاسوس الأمس لا يشبه الجاسوس “العصري“، ولا يكون بالضرورة عميلا. فالأجهزة الأمنية، بتنظيمها واشتغالها، تبقى صناعة حديثة .لهذا السبب، كان جاسوس الأمس، عسكريا أو مدنيا، يباشر مهامه بحُلّة الطبيب أو رجل الدين المبشر، وأحيانا التاجر، أو السفير، أو المستشار العسكري (“القايد“ ماكلين)، أو الباحث الأنثروبولوجي.. والجاسوس هو أذن تتصنت وعين تتصفح وفم يحكي ويد تكتب، يقتني الأخبار ويدونها في منشورات، وأحيانا تقارير يسلمها إلى رجالات الدولة عند رجوعه لموطنه. إلى جانب أخبار المجتمع، كانت العيون والأذن الأوربية تتوجه أساسا للبلاط، تراقب أحوال السلطان وحاشيته، محيطه القريب والبعيد. إضافة إلى التركيز على الموانئ لأنها المدخل الرئيس للبلاد، والمؤهلات العسكرية. رغم انكماش المغرب وانغلاقه خلال مراحل مختلفة من تاريخه، إلا أن الاختراق الأجنبي لم يتوقف. هذا بغض النظر عن الكم الهائل من الباحثين والمستكشفين الذين جابوا البلاد طولا وعرضا، لأغراض مختلفة كان التجسس واحدا منها، ومهدوا بشكل مباشر للاستعمار الفرنسي. ومن الطريف أن يكون عدد من الجواسيس أطباء. لماذا؟ السبب بسيط: أمام التدهور المستمر لـ“الحالة الصحية” في المغرب، خاصة بعد تفشي الجائحات والكوارث، كان من الضروري الاستنجاد بخدمات الأطباء الأوربيين. هكذا، فعل السلاطين والحكام حتى لما كانت “الإمبراطورية الشريفة“ شبه مغلقة ومؤانئها معطلة .الصحة كانت الاستثناء الوحيد، المنفذ الأخير الذي تسرب منه أطباء قدموا العلاج للنخب المحلية، وعادوا إلى بلدانهم محملين بالأخبار والمعلومات الحساسة…
كريم البخاري
تتمة المقال تجدونها في العدد 111 من مجلتكم «زمان»