في هذا الحوار، يوضح لنا المؤرخ حسن حافظي علوي تاريخ تجذر المذهب المالكي في المغرب بإزاء انتشار مذاهب فقهية أخرى، بالإضافة إلى توضيحه سبب تشبث السلاطين المغاربة بهذا المذهب.
حدثنا في البداية، وبشكل عام، كيف كان الوضع المذهبي بالمغرب قبل ترسيخ المذهب المالكي؟
دعني أولا أسجل ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن الإجابة عن هذا السؤال لا تستقيم إذا ما نحن ركزنا على المغرب الأقصى وحده .ومن ثم، فإن الموضوعية تقتضي هاهنا، كما في كل القضايا ذات الصلة بموضوع هذا الحوار، توسيع زاوية النظر لتشمل المشرق الإسلامي والغرب الإسلامي بما فيه المغارب الثلاث والأندلس، لأن المغرب الأقصى لم يكن في يوم من الأيام جزيرة معزولة، بل تماهى على المستوى الديني منذ أن دخله الإسلام مع ما كان يجري في هذه المناطق المذكورة، وتفاعل معه تأثرا وتأثيرا .وجوابا عن سؤالك أقول: وصل دعاة الفرق والمذاهب الإسلامية من إباضية وصفرية ومعتزلة وشيعة إلى القيروان، قاعدة بلاد المغرب والأندلس في أوائل القرن 2هـ/ 8م، يحذوهم الأمل في الاستكثار من الأتباع. وتذكر المصادر التاريخية أن سلامة بن سعد وعكرمة مولى بن عباس قدما إلى القيروان على جمل واحد، وكان سلامة يدعو إلى الإباضية بينما كان عكرمة يدعو إلى الصفرية، وأن واصل بن عطاء أرسل عبد لله بن الحارثة إلى المغرب، فأجابه خلق كثير، ثم انبرى زيد بن سنان الزناتي (من أهل القرن الثاني) إلى مواصلة الدعوة بعده، فانتشرت الواصلية في أغلب قواعد المغرب، وكان لهم بتاهرت أكبر تجمع. هذا عن دعاة الإباضية والصفرية والمعتزلة، أما بالنسبة للشيعة، فقد أنفد جعفر بن محمد الصادق إلى المغرب سنة 145هـ/ 762م كلا من عبد لله بن علي بن أحمد المعروف بالحلواني وأبي سفيان الحسن بن القاسم المعروف بالسفياني، وكان الحلواني يقول: «بعثت أنا وأبو سفيان فقيل لنا: اذهبا إلى المغرب، فإنكما تأتيان أرضا بورا، فاحرثاها وكَرِباها إلى أن يأتيها صاحب البذر». ولم يكن صاحب البذر هذا سوى عبيد لله المهدي الفاطمي الذي أعلن قيام أول خلافة شيعية في الإسلام بسجلماسة سنة 297هـ/ 910م.
كيف تم ترسيخ المذهب المالكي؟ وما هي الأسباب التي جعلت أهل الغرب الإسلامي يقبلون عليه أكثر من إقبالهم على غيره؟
أهم ما يمكن تسجيله في بداية الجواب عن هذا السؤال، هو أن أغلب المذاهب السنية المعروفة قد عرفت طريقها إلى بلاد المغرب والأندلس في وقت مبكر من تاريخ ظهورها، حيث كان بعض أهل القيروان على مذهب الشافعي، وساد فيها المذهب الحنفي مدة من الزمن. وكانت الأندلس على مذهب الأوزاعي، فقيه الشام، ويقال إن الذي أدخله إليها هو صعصعة بن سلام، كما كان بعض الأندلسيين على مذهب الشافعي وبعضهم على مذهب داود الظاهري .وغلب مذهب أبي حنيفة على أهل فاس إلى أن أدخل إليهم أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الگراوي (ت 357هـ/ 968م)، مذهب مالك حسبما ذكره گنون في “النبوغ المغربي“. ومما ينبغي تسجيله في هذا المقام أن المذهب الحنبلي لم يجد له موطئ قدم ببلاد المغرب والأندلس، باستثناء ما وصلنا عن تبني السلطان محمد بن عبد لله للعقيدة الحنبلية لبساطتها وابتعادها عن التأويل، ووصفه لنفسه في مؤلفاته بـ“المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا“؛ واعتماد المولى سليمان لبعض المبادئ السلفية في إطار محاربته للبدع، فضلا عن الرسائل التي بعث بها سعود الكبير (1229-1218هـ/ 1814-1803م) لملوك تونس والمغرب الأقصى في إطار نشر الوهابية، وما خلفته هذه الرسائل من ردود أفعال فقهية.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 137 من مجلتكم «زمان»