ماذا كان يجمع بين أحياء السوق الكبير وكاردونة وبطانة؟ جميعها كانت تشكل بمدينة سلا، عاصمة القراصنة، أحياء متميزة عن بعضها البعض.
في أحد هذه الأحياء الثلاثة، رأيت النور أنا وشقيقي الاثنين وأختي فطومة. فمسقط رأس أخي الأكبر عبد المنعم، كان بالسوق الكبير المتواجد بالمدينة العتيقة. وفي نجد بطانة، أطلق السعيد، أخي الأصغر، صرخته الأولى. أما أنا، فقد كان أول عهدي بالحياة بملتقى كاردونة الذي لم يعد له اليوم أي أثر، على غرار مدرسة الريح التي مسحت مسحا أليما من جغرافية المدينة…
كما أن محطة “الستيام“ اندثرت هي الأخرى وصارت في خبر كان، على شاكلة عمارات سكنية عديدة دمرت عن آخرها ولم يبق منها ولو طلل واحد يشهد على تاريخها القديم. لقد توارت كل هذه البنايات المعمارية العتيقة، ونبتت على أنقاضها ملاعب مصغرة لكرة القدم، اصطلح على تسميتها بملاعب “القرب الحديثة“، وهي التي أصبحت اليوم متنفسا لمئات الشباب من السلاويين، الذين لم يكونوا يمارسون هوايتهم من قبل إلا في الساحات المدسوسة بين الدروب أو في الخلاء، حيث تتكاثر المنبسطات المتربة، مثل ملعب الفرشي بتابريكت الذي تخرج منه لاعبون من العيار الثقيل كبادو الزاكي وموح، وهناك كذلك العديد من مارس هوايته بمقابر سيدي بنعاشر.
ولملتقى كاردونة هذا، ذاكرة تختزن كثيرا من الحكايات التي ما زال الأحياء من الشيب يتداولونها بكثير من الحنين …ففي أرجائها، كانت تقف الحافلات القادمة من مراكش وطنجة والمتوجهة إلى جنوب أو شمال المغرب. وفيها كانت تتواجد مدرسة الريح العجيبة التي كانت كلما غمرتها الأمطار الغزيرة في فصل الشتاء، لم يكن من الممكن الولوج إلى أقسامها المتداعية إلا بواسطة القوارب ذات المجاديف. فكان المنظر في منتهى الغرابة أن ترى التلاميذ والمعلمين وموظفي الإدارة وهم يمتطون بالتناوب قاربا يحملهم من اليابسة إلى المدرسة… هذه الصورة الفريدة من نوعها لم تمح أبدا من ذاكرتي على غرار صور بعيدة أخرى رسخت في نفسي كما يرسخ النقش على الحجر.
محمد أنور الشرقاوي
تتمة المقال تجدونها في العدد 109 من مجلتكم «زمان»