ثلاث سنوات مرت على نشوء حركة 20 فبراير، ثلاث سنوات اكتملت على نزول شباب قالوا “لا” في وجه الظلم والفساد وحالة التيه واللامعنى التي عمت البلاد. ثلاث سنوات ولت على أول صرخة دوت في شوارع المغرب وقالت لكل من يعنيه الأمر “اسمع صوت الشعب”. ثلاث سنوات فاتت ولكن صور وشعارات من هبطوا واحتجوا مازالت حاضرة في الأذهان والسرائر. لا يتعلق الأمر هنا بتدبيج قصائد رثاء أو وقوف على الأطلال، لأن وقع حركة 20 فبراير ليس “أثرا بعد عين” بل نتائجه يقر بها البعيد قبل القريب والعدو قبل الصديق. ما أحدثه زخم تلك الحركة من نتائج سياسية يمكن تعديدها وتبينها بالملموس كسقوط جدار الخوف الذي كان جاثما على صدور الناس ووضع إطار دستوري جديد يفتح آفاقا أرحب وأوسع للعمل السياسي، ومرورا بوصول جزء من الإسلاميين إلى التدبير الحكومي وظهور وجوه شابة وجديدة داخل المجتمع المدني، تصدح بأفكارها بدون مواربة أو وجل. غير أن هذا الزمن المنصرم يسمح بأخذ مسافة لتحليل وفهم ما وقع، ومعرفة لماذا انكسرت حركة 20 فبراير ولماذا أخذ المغرب مسارا يرى فيه البعض “استثناء” و”عبقرية” سياسية خاصة بالمغرب قائمة على التعقل والحوار والتوافق، بينما لا يرى فيه آخرون إلا “ركودا” والتفافا على الديمقراطية الحقيقية والصرفة. المفتاح لفهم ما وقع موجود في طبيعة الطبقة الوسطى التي أصبحت في مغرب اليوم الفيصل والعامل المحدد لمستقبل البلاد السياسي وما ستؤول إليه الأمور. هذه الطبقة ليست جديدة في تاريخ المغرب الحديث، حيث أنها ظهرت بعد الاستقلال نتيجة مغربة الإدارة والاقتصاد والرغبة في سد حاجة البلاد من الأطر المحلية في مختلف القطاعات. غير أن تلك الطبقة الوسطى كانت أساسا نتاجا ورهينة للقطاع العام حيث تشكلت بشكل كبير من موظفين وأساتذة وأطر الشركات التابعة للدولة. إلا أن سياسات التقويم الهيكلي والتقشف التي نهجها المغرب عصفت بكل شيء وقوضت الطبقة الوسطى من أساسها وأفقرتها، وذلك حين قررت الدولة شد الحزام وتجميد الأجور في القطاع العام، فلم تعد هناك من فئة تصل بين الفقراء والأغنياء في مغرب الثمانينات والتسعينات.
غير أن تلك الطبقة ستبعث فيما بعد، حيث أن عودتها كانت مواكبة ومزامنة لملك جديد وعهد آخر فتح الباب أمام الاستثمارات الخارجية وخلق حركية اقتصادية كان من آثارها ظهور طبقة وسطى جديدة. أفراد تلك الطبقة هم من حملة الشواهد العليا، يشتغلون إجمالا في القطاع الخاص، منفتحون على لغات وثقافات أخرى، هم عماد ووقود “مجتمع الاستهلاك” الذي أضحاه المغرب حاليا. هذه الطبقة الوسطى، تدرك بوعي أو عن حدس، أن وضعيتها المادية الحالية مرتبطة باستقرار النظام والبلاد في المغرب. ولذا فهي لا تريد زلزالا سياسيا يطيح بأركان الدولة وينسف دعائمها، وليست براضية في نفس الوقت عن حالة الفساد والاغتناء الفاحش والغير مبرر للبعض حيث تطمح لأن يصبح المغرب ديمقراطية راقية كما هو الحال في الغرب.
موقف تلك الطبقة الوسطى أثناء حراك 20 فبراير هو الذي يفسر المسار الذي أخذه المغرب في السنوات الثلاثة الأخيرة. حيث أنه على عكس نظيرتها في تونس مثلا، والتي اعتبرت أن السيل قد وصل الزبى وأن نظام زين العابدين بنعلي لا يمكن التعايش معه والقبول باستمراره، ارتأت الطبقة الوسطى في المغرب أن الدولة في بلدنا قابلة للإصلاح وأن هناك هامشا معقولا لا ينبغي إهداره من أجل التغيير التدريجي الذي لا يرج الأمور بقوة ويرمي البلاد نحو المجهول، مما في ذلك من تهديد لمصالحها ووضع لمستقبلها المهني والاجتماعي على كف عفريت. تراجع تلك الطبقة الوسطى عن النزول للشارع وتخوفها من أن تسلك الأمور في المغرب نهجا كارثيا ودمويا كما وقع في ليبيا وسورية، أو تنقلب إلى فوضى سياسية وموت اقتصادي، كما هو الحال في مصر، دفعها إلى أن ترضى من الغنيمة بالإياب وتكتفي بالمشاركة في الانتخابات والتصويت لحزب العدالة والتنمية كسقف أقصى من الأمل والتشوف للتغيير. حالة الاستقرار، كما يراها البعض، أو الركود والانتظار، حسب آخرين ليست انعكاسا لخيار الطبقة الوسطى، التي ارتأت أن الإصلاح ممكن وأن هناك فرصة يجب أن تعطى لمحاربة الفساد واستئصاله إن أمكن الأمر أو الحد منه، وذلك أضعف الإيمان.
عبد الله ترابي
رئيس التحرير