خلال القرن التاسع عشر، سخرت القوى الأجنبية أحد أنجع وسائل التغلغل والاحتلال، وهي الجاسوسية، بالتحديد زرع الجواسيس في بلاط السلاطين. في هذا الحوار، يوضح لنا المؤرخ رشيد الحليمي العلمي، الوسائل التي اعتمدها الجواسيس المتعاقبون على المغرب، وكذلك المهام التي اضطلعوا بها خلال مرافقتهم للسلاطين، ومدى تأثيرها في مصير المغرب.
كما هو معلوم أن جميع المجتمعات والدول تكاد لا تخلو من ظاهرة الجاسوسية. وفي المغرب، نقرأ أن الجاسوسية نشطت خلال القرن ،19 ونجحت بعض الحالات في التسلل إلى بلاط السلاطين، بل والتأثير في قراراتهم .لماذا في نظرك تضاعف عدد الجواسيس في هذه الفترة؟
عرف المغرب خلال القرن التاسع عشر تحولات عميقة وحاسمة، انتقلت بالبلاد من مستوى الركود العميق إلى مستوى تفككت معه دعامات البنيات التقليدية للمجتمع. فقد حوصرت البلاد من طرف القوى الإمبريالية، منذ هزيمة إيسلي سنة 1844 وما تلاها من معاهدات لا متكافئة، فتحت البلاد على مصراعيها أمام التكالب الاستعماري .وفي ظل هذا الوضع، كان المخزن يعيش حالة من الضعف والوهن تجسد في فراغ خزينته وثقل ديونه الخارجية وانعدام الأمن، مما مهد الطريق أمام التسرب الأجنبي في البلاد. هكذا، تزايد عدد الأجانب وتوسعت دائرة التمثيل القنصلي، وتفشت معضلة الحمايات القنصلية والترامي على الأراضي الفلاحية، وتكرس التسرب العسكري بمختلف أشكاله .ولإحكام القبضة على البلاد، عملت القوى الأجنبية على تسخير كل إمكانياتها لتيسير تطبيق المخططات التوسعية الكبرى، التي كانت تحاك في أكبر العواصم الأوربية. وشكل الأطباء أحد العناصر النشيطة داخل شبكة المنفذين لهذه المخططات التوسعية، حيث صار الطب أحد العوامل الأكثر نجاعة في التسرب السلمي والاستقطاب.
لماذا كان الطب أحد أنجع الطرق في عمل الجاسوسية؟
لقد صرح المقيم العام ليوطي قائلا: «ليس هناك عمل أكثر توطيدا ومتانة من فعالية دور الطبيب كعميل للتسرب والاستقطاب والتهدئة». كما شدد على دور الطبيب في عملية التهدئة التي يراد القيام بها في جهة من الجهات، قائلا: «إن كثيرا من سوء الفهم يتلاشى ويتبدد بمجرد أن يحصل التعارف في ما بيننا . وماذا عسى التهدئة أن تكون في معظم الأحيان؟ إن هي إلا إنهاء لسوء التفاهم. ففي الغالب يكون الاتصال الأول صعبا. ولهذا يجب أن يقوم به شخص يكون مبدئيا يوحي بالثقة .والحال أنه لا أحد يستجيب لهذا الشرط أفضل من الطبيب؛ ففي اليوم الذي يقرر فيه وجيه من الوجهاء أو قائد من القواد أو فقير من الفقراء، أن يذهب لاستشارة الطبيب الفرنسي ويخرج من عيادته وقد اطمأن باله وقرت نفسه، فحينئذ يكون قد تحطم الجليد وتمت الخطوة الأولى ومدت عرى العلاقات».
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 111 من مجلتكم «زمان»