إن الحديث عن عواصم المغرب المنسية يدفعنا لطرح أسئلة عديدة حول نشأة المدن والإمارات مبكرا في المغرب، ويجعلنا نتساءل كذلك عن معايير اختيار الملوك والسلاطين لعواصمهم. في هذا الحوار، يجيب المؤرخ والباحث في الموضوع عبد المالك ناصري عن هذه الأسئلة وغيرها، ويقدم لنا إضاءة ممتدة حول نشأة المدن والعواصم بالمغرب.
في البداية، ماهي بعض ملامح التحولات والتبدلات العميقة التي عرفتها الظاهرة الحضرية بالمغرب بعد وصول المسلمين إليه؟
تذكر المصادر أن المسلمين الأوائل اكتفوا بالاستقرار المؤقت أو الدائم بالمدن التي صادفوها قائمة، حيث اختلطوا بأهلها وجاوروهم، فقد كان هدفهم في بداية الأمر هو تثبيت وجودهم، والعمل على استتباب الأمن وتحقيق نوع من الهدنة التي تسمح لهم بنشر الإسلام على أوسع نطاق، ساعين إلى إقناع السكان بأن غايتهم ليست هي الاستيلاء على ثروات البلاد ونهب خيراتها، بل نشر الإسلام وتعميم دعوته بين كافة الناس. غير أن هذه المهمة لم تكن بالأمر الهين، ذلك أن عملية إخضاع البلاد تطلبت جهودا كبيرة لاسيما أن بعض قادة المسلمين في بلاد المغرب لم يلتزموا بالغاية المرسومة، ولم تكن الأوضاع في هذه الفترة المبكرة من تاريخ بلاد المغرب قد شهدت استقرارا وهدوء يُمْكن معه الشروع في تخطيط مدن جديدة وتعميرها، خاصة إذا استحضرنا الثورات والانتفاضات التي قادها بعض الزعماء المحليون، تعبيرا عن رفضهم للأساليب التي كان الولاة المسلمون يتعاملون بها معهم، وكذلك اندلاع ثورات الخوارج بالمغرب الذين أسهموا بشكل كبير في حركة التمدين التي عرفتها المنطقة منذ هذه الفترة. وهناك اعتقاد راسخ بين الباحثين أن ظهور ملامح عمران حضري، خلال الفترة التي أعقبت وصول المسلمين إلى بلاد المغرب، تُؤرخ بمنتصف القرن الثاني الهجري، الموافق للقرن الثامن الميلادي، وهذا ما ألمحت إليه بعض المصادر التي أكدت أن معظم المدن المغربية نشأت أو تم تعميرها بهذا المجال بداية من هذه الفترة التاريخية، على غرار غساسة وسجلماسة ونكور وكورت، والأقلام والبصرة وحجر النسر وقصر كتامة وتشمس وداي وأغمات ونفيس وإيكلي وتامدولت وتدغة وتاكراكرا وغيرها.
هل يمكن أن تصف لنا أوضاع المدن المغربية عند نشأة الإمارات والدول في الفترة الإسلامية الأولى، بمعنى: ما هي مقومات المدينة وقتئذ؟
أعقبت عمليات وصول المسلمين إلى بلاد المغرب الكثير من الأحداث التي طبعت المجال المغربي، ومن تلك الوقائع الثورات التي اندلعت معلنة عن عهد جديد بهذه البلاد. وفي خضم هذه التحولات، ظهرت بعض المدن التي اعتبرت قواعد لإمارات ودول فكت ارتباطها مع سلطة الخلافة بالمشرق، حيث اتخذت منها عواصم لكياناتها السياسية الناشئة .وتبعا لذلك، ظهرت مدينة نكور في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، شيدها سعيد بن إدريس بن صالح، واتخذ منها قاعدة لإمارته، وبقيت قائمة على حالها إلى أن خربتها جيوش الملثمين بقيادة يوسف بن تاشفين سنة 473هـ/1080م. ثم أنشئت مدينة سجلماسة، التي اتفقت أغلب الروايات على أنها أسست سنة 140هـ/757م، وقد شكلت عاصمة لبني مدرار الخوارج. وقد أتم بناءها وتشييدها اليسع بن أبي القاسم سمكو، وقد استمرت قائمة إلى حدود القرن العاشر الهجري. أوردت المصادر التاريخية بعض المعلومات عن مدينتي نكور وسجلماسة، غير أنها في المقابل تعاملت بالكثير من الاستخفاف والتجاهل مع المدن التي كانت قائمة ببلاد تامسنا، الخاضعة لإمارة برغواطة، وهذا الأمر يثير الكثير من التساؤلات؛ إذ أنه من غير المعقول غياب عمران حضري بمجال عُرف بكثافته السكانية، وبمبادلاته التجارية مع إمارات مجاورة، خاصة في فترات الهدنة .فلم تكن برغواطة إمارة صغيرة منعزلة، بل اعتبرت من أقوى الإمارات التي عرفها المغرب خلال العصر الوسيط، وقد عمرت زهاء أربعة قرون .وتبعا لذلك، يصعب أن نصنف هذه الإمارة ضمن الكيانات البدائية التي لم تعرف أشكالا معينة من التحضر والتمدن التي لها مقوماتها الخاصة.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 139 من مجلتكم «زمان»