«حدثوني عن ذاتي، لا يهمني سوى ذاتي»، هكذا تقول أغنية فرنسية قديمة، وهي لسان حال الذين يحملون هذا البلد في قلوبهم ولا يهمهم بالدرجة الأولى إلا ما يعتمل في هذه الرقعة التي تجسد الوطن، وتحمل آلامه وآماله. ومع ذلك من الصعب إدارة الظهر إلى التأثيرات التي تأتي من الشرق وتؤثر في الفعاليات الثقافية والسياسية وتحدد التوجهات الفكرية لكثير من الحركات.. هو واقع طبع مسيرتنا الفكرية والسياسية لعقود، إن لم يكن قبلها بقرون وأثر في التوجهات القائمة، رغم أن المصلحة والمنطق يمليان شيئا آخر.. هو واقع، ولعل أجدادنا كانوا واعين بذلك إذ يقولون، «كل ما يجي من الشرق مليح، من غير بنادم والريح».
أثرت الهجرات سلبا في بنيات مجتمعنا، وأفضت إلى اختلالات عميقة، ولم يكن أجدادنا يميزونها عن ريح الشركي العاتية التي تأتي على الزرع والضرع. ولم تفتأ رياح الشركي الإيديولوجية تهب على بلادنا. كان كثير من بني جلدتنا يرون فيها الخلاص، بل حاولوا أن يغيروا واقعا عصيا لينسكب في قوالب جاهزة أتت من الشرق، وفق سياق خاص بالشرق.
كان من ذلك القومية العربية، وكان من ذلك مفهوم للإسلام غريب عن تربتنا، وكان من ذلك ولاءات تقفز على الوطن و تزري بأبناء الوطن، فترى في المواطن الذي لا ينطبق وَرُؤاهَا عدوا يقف حجر عثرة أمام نظرتها ومشروعها لا ترى غضاضة في استئصاله ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
تجاوزنا كثيرا من تلك الرؤى التي لم تنته لشيء، ومع ذلك لم نقتحم العقبة. لا تزال تلك الرؤى تسكن أطيافا من بني جلدتنا في لبوس جديد.. لا تزال تلاحقنا. لقد اغتنى طيف الاحتجاج عندنا برباعية رابعة العدوية ولونها الأصفر الفاقع، يسر بعض الناظرين. أصبح كثير من مثقفينا وسياسينا ذيولا لما يعتمل بالمحروسة، وصراعها. ما يقع بمصر شيء يهم المصريين بالدرجة الأولى. وانبرى مؤخرا بعض من مثقفينا للدفاع عن اللغة العربية. وذلك شيء نبيل، ولكن هل يجوز الدفاع عنها بلغة ضعيفة، وأسلوب ركيك وأخطاء نحوية؟ قواعد اللغة ليست عبثا، وجمالها ليس ترفا، فكيف يشينها من يزعم الدفاع عنها؟ أَوَ ليس يخفي ضحالته الفكرية من خلال مواقف وجدانية وخطابات شعبوبية؟ الشخصية المغربية أعمق من أن تختزل في لغة، أو في عرق أو حتى في عقيدة. ثم إن تعلم لغات أجنبية لا يضير اللغة العربية في شيء، بل على العكس. أليس يقول الحديث المأثور «الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها»؟. ماذا يفيد أن نعلم أبناءنا باللغة العربية أشياء لا تسمن ولا تغني من جوع؟ وماذا يفيد أن نعلمهم معارف بلغة ركيكة، أو بلغة عربية في معجمها، أجنبية في تركيبها؟ كثير من الأشياء التي تكتب عندنا لا يمكن إدراك معناها إلا إن استحضرنا اللغة الأجنبية. ثم كيف نفسر هذه الازدواجية مع لفيف من علية القوم رفع عقيرته بتعليم اللغة العربية ولكنه لم يجد غضاضة في تعليم أبنائه باللغة الأجنبية؟ تعليم اللغات الأجنبية لا يزري بذاتنا أو يتهدد شخصيتنا، تعلم اللغات الأجنبية المتقدمة يسهم في تغيير البنيات الذهنية، وهذا الذي نريد. كان لهذه الرقعة التي نحن نسل منها أثر في التجربة الإنسانية يوم أن جاز رجل وجمعه البحر هو طارق بن زياد. كان لا بد له من سفن استأجرها من حاكم سبتة يوليان، الذي لا يزال نهر يحمل اسمه ما بين طنجة والقصر الصغير.
لم تطمر الذاكرة الشعبية هذا الحاكم لأنه كان شريكا في هذا التحول الاستراتيجي في تاريخ البشرية.لا بد أن نستأجر سفنا تنقلنا للضفة الأخرى. سفن العلم والمعرفة والتفكير بالعقل. المعتقدات شيء جميل في تاريخ الشعوب، ولكنها أفكار عامة تمتلكنا، أما الأفكار فنحن مالكوها وهي نتاج تفاعل مع الواقع وبها نغير الأوضاع القائمة المشينة. المعتقدات لا تغير الواقع، تحافظ عليه، وقد تحنطه، ولكنها لا تنقل المجتمعات من وضع لوضع ولا تطورها. ما يأتينا من الشرق معتقدات تملك أصحابها. نريد أفكارا تنبت من تربتنا هي نتاج لتفاعلنا مع واقعنا لنخلق دينامية لتغييره.
لنغير سلوكنا كما تقول الوصلة الإشهارية، وإلا فلسوف تستمر رياح الشركي العاتية تهب في ربوعنا تحجب عنا الرؤية وتصدنا عن الحركة.
لا خيار.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير