يقيم الأستاذ محمد الساسي، في مقال بعنوان «الفرص الضائعة.. زمنا الكتلة الديمقراطية وحركة 20 فبراير» في جريدة المساء بتاريخ 11 سبتمبر 2014، جردا لما أسماه بالفرص الضائعة في حقل الإصلاح السياسي، منذ الاستقلال، فيما يتعلق بتوزيع السلطات بين القصر والحركة الوطنية، وامتداداتها الحزبية. بزغت فترات تاريخية ملائمة للحركة الوطنية وامتداداتها، مع الحصول على الاستقلال، أو في سياق سقوط حائط برلين، ثم كذلك مع الحراك الذي عرفته بلادنا مع ما سمي بالربيع العربي، حيث يبدو أن فرصة ما سمي بالتنزيل الديمقراطي لدستور 2011 قد أهدرت.
تشخيص الساسي صائب ودقيق، ويستلزم طرح سؤال آخر، أسوة بما يقوله المحلل الاقتصادي جوزيف ستيغليتز: حينما تتكرر حوادث سير في مكان ما، فليس العيب عيب السائق بالضرورة، ولا السيارة، ولكنه قد يكون الطريق. لِم إذن تتكرر هذه الفرص الضائعة؟ أليس هناك أسباب موضوعية تقف وراء هذا الإهدار؟
يمكن أن نتوسع في التحليل لنضيف عاملا ظاهرا استغله الحقل الحزبي في علاقته بالقصر، هو فوران الشارع كما حدث غداة الاستقلال، أو في التسعينات مع سقوط حائط برلين وبروز جيل جديد من المطالب، والفاعلين، أو مع الحراك الديمقراطي مع ما سمي بالربيع العربي. في كل هذه الحالات انثنت السلطة أمام عواصف الشارع، وقدمت تنازلات من خلال وعود دستورية، ثم التفت على تلك المطالب مع مرور العاصفة. لم يكن الشارع عاملا بنيويا، ولا منسجما، ولا قارا واستطاعت السلطة، من خلال أدوات التحكم أن تلتف على الإصلاحات الموعودة. كان الشارع عاملا مؤثرا، وليس حاسما. كان عرضيا وليس بنيويا.
لا بد أن نضيف عاملا مستترا كان يضطلع بدور سياسي، ويضطر أن يفعل ذلك في شكل مكشوف، حين تضطره الظروف إلى ذلك، هو البنية التقنية بالمصطلح الفرنسي، أو الدولة العميقة في المصطلح المستعمل حاليا. لم يكتف هذا العامل بدور تدبيري، بل اضطلع، منذ فجر الاستقلال، إلى دور سياسي، واضطُر إلى أن يكون حاضنا لأحزاب سياسية، كما فيما كان يسمى بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، ثم في سياق السبعينات والثمانيات. كانت هذه البنية محركا Catalyseur لأحزاب مرتبطة بالسلطة، مما يسمى بالأحزاب الإدارية، وهو الأمر الذي تكرر في العهد الجديد مع حزب الأصالة والمعاصرة. من الضروري أن نذكّر بأن هذه البنية هي التي رفعت مظلة القصر، وارتبطت معه في تحالف موضوعي، ومصالح مشتركة. من الخطأ في الرأي الاعتقاد بأنه تم توظيفها لا غير، وأنها كانت تعدم وعيا سياسيا. لقد كان لها وما تزال معرفة تقنية، وقدرات تدبيرية، وكان ذلك مصدر قوتها، وكان يُنظر إليها، غداة الاستقلال بأنها مرتبطة بمصالح المتروبول، وأنها استمرارية لمنظومة الحماية، وكان ذلك موطن ضعفها، ولذلك ارتبطت بالقصر لتجاوز هذه الخطيئة. تكرر المشهد في الثمانينات حين عمدت هذه البنية إلى إدخال إصلاحات هيكيلية في إطار ما سمي بالتقويم الهيكلي الموحى أو المملى من قِبل صندوق النقد الدولي، واستطاعت في التسعينات أن تسرب منظورها الإصلاحي إلى خطاب القصر.
أدرك الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي دور البنية التقنوقراطية، وغازلها مع إرهاصات التناوب، ثم طمأنها، من خلال دعوته إلى عدم مطاردة الساحرات. كان هاجس اليوسفي هو الاعتماد على المؤهلات التدبيرية لهذه الشريحة وإدماجها في عملية إنجاح التناوب من خلال استفادة من خبرتها، وتحييد قدراتها في الإيذاء.
مع العهد الجديد انفلتت هذه البنية من الوصاية التي كان اليوسفي يسعى أن يجريها عليها، واعتبرت الظرفية ملائمة لترتبط مع الفريق الجديد الذي أخذت تدس إليه رؤيتها وإصلاحاتها وإيقاعها. لم تكن فاعلا تدبيريا فقط، بل أضحت فاعلا سياسيا، مؤثرا بل مهيمنا. كادت تتوارى مع الحكومة الحالية لكي لا تتحرك إلا من وراء حجاب، وما لبثت أن أسفرت عن وجهها، مع النسخة الثانية للحكومة الإسلامية حين وضعت اليد على كثير من القطاعات الحيوية.
كل تفكير في الإصلاح السياسي ينبغي أن يدرج دور هذه البنية. ليست بالضرورة منسجمة، وليست عديمة حس سياسي، وليست، وهذا هو المهم، منسلخة عن هواجس الحقل السياسي وتموجات المجتمع. توجسها من ضعف الحقل السياسي في المجال التدبيري هو ما جعلها ترتبط بالعناصر الحاضنة للتقاليد، وتلتئم مع الأساليب السلطوية، مما هو مناف لتكوينها وطبيعتها. هي حداثية، وهي تأنف من التسلط، والتحكم، وهي، إذ ترتبط بالعناصر التقليدية وتقبل بالتسلط والتحكم، تفعل ذلك اضطرارا. إنه زواج غير طبيعي أملته المصلحة المشتركة، والخوف من الشعبوية.
إن الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن يتم بتحييد هذه الشريحة التي يمكن أن تكون عماد الدولة الحديثة. هذا الفاعل المستتر، البنية التقنوقراطية، أو الإدارة، أو الدولة العميقة (لاتهم المسميات)، لا يطابق النظرة الجاهزة والأحكام مسبقة من أنها عنصر عرقلة. هذه البنية قابلة لأن تتطور. إن عدم ثقتها في الفاعلين السياسيين، وازدراءها للشعبوية هو ما جعل منها عنصر عرقلة للانتقال الديمقراطي ودفع بها نحو العناصر التقليدية.
أخفق ما سمي بالتناوب، وسيخفق لا محالة في صيغته الحالية، إن لم تتوسع دائرة الفاعلين لتدرج فاعلين خارج الحقل المؤسسي، ومن بينهم البينة التقنية والبرجوازية، وهما إحدى أهم عناصر التحديث. تحديث الدولة، وتحديث المجتمع. عيب هذين الفاعلَين، وفاعلين أُخَر، أنهم لا ينبثقون من خلال عملية الانتخاب. لقد فطن المحلل الأمريكي، جون واتيربوري، أن المجتمعات التي تعاني الخصاص لا يمكن أن تقيم اختيارات لنخبها بناء على منظومة قيم. ويظل الحوار بين الفاعلين خارج الحقل المُؤسَّسي، إحدى السبل لتجاوز لعنة «الفرص الضائعة.»
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير