يتميز الإبداع الشعري لدى قبائل آيت وراين، بكونه إبداعا شفويا. يمتلك الأهالي آذانا موسيقية وشعرية. فالشعر عندهم لا يقرأ
ولا يكتب ولكن يغنى ويلحن، وينتهي رقصا.
نتابع في هذه الدراسة تجربة شعرية إبداعية، تتحول من الشفوي إلى الكتابي ومن الجماعي إلى الفردي. متابعة تتخذ من الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي نموذجا لها، ونخص بالضبط فيدرالية أو اتحادية قبائل آيت وراين. فما الذي يميز هذه التجربة الابداعية؟
لا يخرج الإبداع الشعري عن سياق الفعل اليومي المعتاد، بل هو فعل يحايثه ليشكل لحظة أو لحظات قد ترسم للجماعة المبدعة ديمومتها عبر لغة الكلام أو لغة الرقص. إنه ضرب من الإبداع يمكن أن يلازم الإنسان طيلة مسيرته أو لحظات حياته وهي لحظات يتجاوب فيها المبدع مع ذاته. من خلال حوار داخلي، أو من خلال مقابلة مع الغير فردا كان أو جماعة. وللتدقيق أكثر يمكن أن نركز على الأقل على لحظتين إبداعيتين: اللحظة الأولى هي لحظة عفوية يحكمها الترويح عن النفس أو الخروج من عزلة الذات، وخلالها يبدع الشخص لذاته. أما اللحظة الثانية فهي مبرمجة ومنظمة ومقصودة (تحت الطلب). يفضي الإبداع في اللحظتين إلى إنتاج نص أو نصوص شفوية عن الذات الفردية أو الجماعية، وهي نصوص تؤرخ للتجربة أو تستعيد الماضي وتراجعه، أو تنشد المستقبل.
في هذه التجربة، يبدأ الإبداع فرديا، وينتهي جماعيا. يبدأ غناء وينتهي رقصا. إبداع تنتجه ذات واحدة، تبدعه وتمضيه وتضفي عليه طابعا خاصا، لكنه بمجرد ما يخرج عن الذات المنتجة كرسالة يتلقاها المستمع المعني أو العابر، يغدو هذا الإبداع الشعري إنتاجا جماعيا.
إن إنتاج الشعر هنا يرتبط بالغناء، لذلك نعتبر هذا النوع من الإبداع “شعرا غنائيا”، فهو خارج الغناء لا قيمة له، وما يمنحه القيمة هو المناسبات الاحتفالية الجماعية بما هي “سوق للتبادلات الرمزية” (بورديو،1982). ففي هذا السوق ووفقا لقانونه ترتفع قيمته أو تنحط، يكثر تداوله وينتشر أو تنحط قيمته، ومن ثمة موته. سمو القيمة أو انحطاطها يفضيان، كذلك، إلى سمو الشاعر أو موته. قد يعز الشعر صاحبه وقد يهينه. ففي المناسبات الاحتفالية يكون الشاعر ومن ثمة القبيلة قد تفرغ وأنهى مشاغله ومتاعبه، فيتفرغ للإبداع ويكون التواصل مع أكبر عدد من الناس, وعندما تحظى قصيدة ما، أو لازمة ما بالاستحسان والقبول فإن سلطتها تتجاوز الدوار أو القبيلة لتصل إلى مناطق بعيدة، وهنا سنلاحظ كيف تتجاوز الكلمة المنطق القبلي والايكولوجي، وتصبح قادرة على التبادل كما الخيرات الأخرى (النساء، البضائع، اللغة… الخ) (ستروس،1977، ص:348).
إن تناولنا للشعر الغنائي أو ما يعرف في الأمازيغية بـ”إزلان”، يمكن مقارنته بأشكال تعبيرية أخرى مثل “الذكير” و”تيفارت”.
فالذكير هو كلام ينشده الناظم ويعرضه لحظة حضور الجماعة، تشاركه في ذلك جماعة “إردادن”، يشكلها ثلة من الرجال يرددون لازمة متكررة، في حين يسترسل الناظم في موضوعه الذي يمكن أن تكون تيماته إما قيمية، دينية أخلاقية، وعظية وإرشادية. يتميز االذكير، إما بلحظية الإبداع أو التهييئ المسبق أو سرد ما هو محفوظ في الذاكرة وهي قصائد إما من إنتاجه وإما من إنتاج غيره وهي في الغالب قصائد مطولة. بينما تيفارت فهي قصيدة طويلة، لحظية الإبداع أو محفوظة في الذاكرة، للمبدع أو للملقي أو لغيره من الشعراء، مواضيعها متعددة ومتنوعة، إما غزلية وإما اجتماعية. يتطلب إلقاؤها وجود مجموعة عناصر تردد لازمة خلال عملية إلقاء وغناء القصيدة.
سواء تعلق الأمر بالشكل الأول أو الثاني، نحن أمام نصوص تلقى شفويا، بحضور الجماعة (أفراد الدوار أو القبيلة)، هي لحظات إبداعية تواصلية وإشراكية، لأن المتلقي لا يبقى سلبيا، أمام ما يسمعه بل يردد جهرا أو صمتا، غير أن الاشتراك هاهنا هو اشتراك وجداني، في حين تبقى عناصر الجسد الأخرى شبه معطلة أو سلبية إذا ما قورنت بما يجري في طقس أحيدوس.إذا كان الشعر الغنائي يقتضي فرقتين متواجهتين، فان “الذكير” يمكن أن يكون بطرف واحد كما هو شأن “تيفارت”.
ما يميز الشعر الغنائي “إزلان” عن الأنواع التي ذكرناها هو ما بعد الإنتاج الشعري، إن أفراد القبيلة لا يستمتعون بالسماع والرؤية فقط بل يشاركون في الغناء والرقص، حيث تتواجد فرقتان على رأس كل واحدة منهما شاعرا أو أكثر.
دلالات أحيدوس
ما المقصود بطقس أحيدوس وما دلالاته الثقافية والرمزية؟ نقصد بالطقس: “مجموعة حركات سلوكية متكررة يتفق عليها أبناء المجتمع وتكون على أنواع مختلفة تتناسب والغاية التي دفعت الفاعل الاجتماعي أو الجماعة للقيام بها.”( ميشيل ديتكن، ص:176)
إن الشخص الذي ينخرط في طقس أحيدوس لا يقوم بحركات رياضية فقط، أو يرسم بالتفاعل مع غيره شكلا هندسيا، بل يترجم ثقافة تحوي تاريخها وتفردها، لذلك فإن الوقوف عند ظاهر اللوحة سوف يخفي عنا عمقها وتجربتها الإنسانية التاريخية والتفاعلية أو بكلمة واحدة وراء الطقس يختفي العمق الأنتربولوجي للوجود الإنساني.
ككل عمل فني، وككل لوحة، لا شيء يولد مكتملا، كل شيء يبدأ بسيطا وينتهي مركبا ومعقدا. تحضر المجموعة المكونة للريف، تستعد، تتمظهر في لباس خاص بالعرض وللعرض، إنه الجلباب الأبيض (تجلابت) ثم العمامة (تشدادت) وسلهام ثم الدف (بندير).
تتكون فرقة أحيدوس عند قبائل آيت وراين من شاعر أو أكثر يلقب بشيخ القول أو “الشيخ يزلان” ومجموعة من المساعدين، ضمنهم شخص آخر يختص في الضرب على الدف (البندير)، يتوسط الشيخ مجموعته في شكل حلقة دائرية، ويتم ارتجال أو توليد لازمة عبارة عن بيت شعري كمقدمة مرسلة للمجموعة المقابلة، إن هذا الإرسال هو إعلان عن بداية المواجهة بين المجموعتين المتقابلتين ميدانيا. يتميز الإرسال الأول في الغالب بكونه مسالما يتضمن الترحيب والشكر والصلاة على النبي أو طلب أحد الأولياء لمباركة الحفل. تدريجيا، تنكسر الدائرة المغلقة والتوجه نحو المجموعة الأخرى والجمهور الذي جاء للمتابعة، يتم الانتقال من الدائرة إلى نصفها. هندسيا ينفتح الشكل المنغلق لأن الإرسال سيتوجه نحو المجموعة الأخرى المحاورة أو المتابعة. ها نحن أمام تفاعل مجموعتين، إن المجموعة المستقبلة سينتابها الصمت، ولكنه صمت دال، لأنها تلقت رسالة وما على عناصرها إلا أن ينصتوا ويستوعبوا الرسالة ويفكوا ألغازها. يرددون الرسالة في صمت وتمعن، وبعد ذلك يعيدونها جهرا إلى مصدرها.
أما الجمهور، الذي يلتزم الصمت والترقب في البداية، فسرعان ما يخرج عن صمته صادرا حكما يستحسن أو يستهجن ما سمعه، ثم انتظار ما سوف يأتي. تعاد اللازمة لمدة دقائق ثم تليها لازمة أخرى، وهي العملية نفسها التي ستقوم بها الفرقة الأخرى، إلى أن يتم الانتقال تدريجيا وأحيانا بطلب من الجمهور إلى مرحلة موالية أكثر بناء وتعقيدا. تبادر المجموعة الأولى بصياغة لازمة مخالفة للأولى، ترسل وتردد من قبل المجموعة المستقبلة، ثم ترسل المجموعة الأولى أبياتا شعرية في موضوع ما، تترك المهلة للمجموعة الثانية لتتمكن من استيعاب وحفظ ما بث إليها، وعندما يتحقق ذلك تعيد المجموعة الأولى ما سمعته، ثم تردد المجموعة الأولى نفس الأمر.
يتم ترديد هذه الأبيات تباعا، وفي الوقت ذاته، نجد بعض عناصر المجموعة الأولى تهيئ وتراجع بيتا شعريا جديدا لكي يرسل من جديد إلى العناصر المستقبلة، دون أن تتكلف العناصر المستقبلة بإعادته، بل تكتفي فقط بإعادة البيت الأول واللازمة المرافقة له.
بعد هذه “المحاورات الشعرية” تكتفي المجموعتان بترديد لازمة مرافقة للبيتين الشعريين المرسلين، وخلال هذه المرحلة بالضبط يكون الرقص قد اتخذ طريقه بتوجيه من دقات شيخ البندير، ويستمر فعل “المحاورات الشعرية” بالتوالي طيلة مدة الحفل. وهنا أيضا نسجل أن الشكل الهندسي للرقص، (نصف الدائري)، يتوسع بمشاركة عناصر جديدة لم تشارك المجموعتين في العمليات الأولى من المحاورات، ليستقر الحال على شكلين هندسيين دائرين وموسعين لطرفين متقابلين. يطلق عليهما بالأمازيغية “لرياف” أو إن شئنا بالعربية الأرياف، وقد تكون هذه التسمية مستوحاة من الطبيعة الجبلية ذات الأرياف المتراصة والمتواجهة. إن هذين الفريقين يرقصان بتوجيهات وحركات “شيخ نَ الريف”، مما يعني أن كل فريق يتوسطه رجل يتقن فن الرقص، وهو الذي يوجه ويراقب ويصرخ في وجه أعضاء فريقه، قصد الحفاظ على نظام طقس أحيدوس كما تبين للمتتبع حركات الجسد ورقصاته. إن توجيهات هذا الشيخ تتماهى وأصوات البندير. تتشابك الأيدي بشكل متقاطع ومتراص، وهذا ما لا يمكنه أن يستمر ما لم تراع شروط إلزامية في كل من يلج جماعة رقصة أحيدوس ومنها: وحدة اللباس، الخضوع والالتزام بضوابط رقصة أحيدوس.
تتجلى مهمة القائد الذي يوجه الريف في الانتباه ومراقبة حركات أعضاء فريقه وكلما استشعر أن أعضاء فريقه تعبوا أو أصابهم الملل من رقصة ما، ينتقل إلى رقصة أخرى وفق حركة انتفاضية وفجائية وهكذا، إلى أن تستوفي كل حركة وقتها.
رمزية الثقافة من خلال الرقص
ما يعطي لطقس أحيدوس سلطته هو وحدته وانسجامه أي نظامه، ومن هنا فعلى كل فرد فرد داخله أن يتمسك بقواعد اللعب، وقواعد النظام: وكأن كل راقص يردد في داخله، لا تغير مكانك، ولا تتقمص دور غيرك، وإلا سوف يتكسر النظام ويتحول إلى فوضى. إن طقس رقصة أحيدوس ما هو إلا مسرحة للتراتبات المادية والرمزية داخل المجتمع، إنه إعادة بناء للعالم كما تجسده ثقافة الجماعة، إذ أن المجتمع يسيج ذاته في دائرة طقسية رمزية ويعبر عن ذاته من خلالها، يمسرح ذاته ويجعل نفسه فرجة وموضوعا لها، وكأن لسان حاله يقول: هي ذي علاقاتي، وهي ذي خيراتي، وهي ذي تراتباتي وهو ذا عنفي، أقبله وأخضع له.
يستمد طقس أحيدوس قواعده التنظيمية من النظام الاجتماعي للقبيلة، إنه وسيط ينضاف لمؤسسات أخرى تقوم بالوظيفة نفسها. لكي يحافظ المجتمع على استمراريته، فهو لا يراهن على قناة واحدة، بل يراهن على قنوات ومؤسسات عدة من مهامها المحافظة على استمرارية الجماعة، من هنا يمكن أن نفهم فعالية المتخيل الذي يحمله طقس أحيدوس، كشكل مواز تمرر عبره القبيلة تصورها وثقافتها وسلطانها، أليس هذا هو حال ميكروفيزياء السلطة كما تحدث عنه فوكو؟. (فوكو، 1988، ص:78-81).
فما القيم المضمرة التي يخفيها طقس أحيدوس؟
يضمر طقس أحيدوس، نظاما دلاليا، محايثا لباقي القنوات الرمزية المدعمة والحاملة لثقافة المجتمع وقيمه ومعاييره، أو بتعبير آخر نحن أمام إحدى أهم الأجهزة الأيديولوجية للقبيلة. قبل بداية المواجهة بين الفريقين المتقابلين تسود حالة من الريبة والحذر، فكل فرقة ترى في مقابلها خصما يجب الإعداد له ومواجهته بالرجال (إلعابن) وبالكلمات (إقرطاسن). وككل مواجهة، فإن الأمر يتطلب حضور الكل ومشاركته، ومن لم يحضر يلزمه (الحق)، وإن امتنع يمكن للجماعة أن تهمشه أو تطرده من “تزريبت إلعابن”، وهي عمليات تفضي إلى مقاطعته اجتماعيا، وكل من تعامل معه يواجه بدوره المصير نفسه. وبحضور جميع أفراد القبيلة يتخذ المشهد صورا عسكرية من خلال: الشكل النصف الدائري، اللغة المستعملة داخل الطقس، رقصة الركبة (فود)، رقصة استرح (روح)، رقصة (سير وجي) وغيرها من الرقصات. عندما نتابع رقصات أحيدوس ونتابع عبرها حركات الجسد، نجدها لا تخلو من دلالات، (لا يسمح المقام بتفصيلها هنا)، وما يزيد في الكشف عنها الأسماء التي تطلق على كل رقصة مؤداة، توحي الأرجل الراقصة بأنها حصان ممتطى، وكل رقصة تحيل على لحظة من لحظات الزحف أو المواجهة.
أحيدوس بدون امرأة كطعام بدون ملح
إن وجود المرأة داخل رقصة أحيدوس مؤشر استحسان وغيابها مؤشر على عدم الرضا على الجماعة أو على طريقتها في الرقص. وما يشجع المرأة على المشاركة في الطقس هو الفرجة وانتظام الريف، لذلك فإن، مشاركة المرأة في الرقص يفضي الى استمرار الرقص المنتظم، كما أن عدم مشاركتها يولد الفتور والملل، وربما التوقف وانتهاء الحفل. قد تختزل وظيفة المرأة هنا في الإثارة، فبوجودها يستمر طقس أحيدوس ويحافظ على نظامه. إن الحرية التي يمنحها طقس أحيدوس هنا للمرأة قد لا تتكرر على مستوى المعيش اليومي. فهل يعمل الطقس هنا على تزييف الواقع وإضفاء طابع مثالي عليه؟ أم أن الطقس يعوض عما لا يعيشه؟ أم أنه يمسرح علاقاته ويعمل على عرض خيراته؟ فإذا كان الطقس يظهر أن المرأة تنتقل من الخارج إلى الداخل وفي الداخل تتمتع بحرية لم تتمتع بها فيما سبق، فإن الواقع يظهر عكس ذلك، فالمرأة لا تنتقل إلا من الداخل إلى الداخل (سيادة الزواج الداخلي)، ولا تتمتع بحرية شبيهة بتلك التي يمنحها الطقس. غير أن هذه الحرية المرتبطة بالمجتمع وبالطقس عرفت تحولا كبيرا، فلم نعد أمام زواج داخلي بل أصبح الزواج خارجيا أيضا. من هنا فحرية المرأة، داخل الطقس لا تساهم بأي حال في خرق أي نظام سواء كان داخليا “الطقس” أو خارجيا “النظام الاجتماعي”، رغم كونها تظهر كذلك. وبتحليلنا لوضعية المرأة، كما يقدمها الطقس وكما هي في الواقع، اتضح لنا أن الطقس لا يخرج عن طبيعته ولا يناقض نفسه، مادام هناك نظام يخضع له.
فالمرأة عار، والعار مؤسسة، وعندما يدخل الطقس المرأة في نظام العار، فهو يخلق تعارضا بين وضعها اليومي، خارج الطقس، ووضعها داخل رقصة أحيدوس، إنما يؤكد وظيفتها التبادلية، من هنا يمكن القول بأن الطقس كأسطورة لا يزيف الواقع، مادام المجال “الأسطوري” هو المجال الذي يضمن الاستمرارية لنوع من الشعور بالانتماء إلى هوية مشتركة يتقاسمها الأفراد، وعندما ننعت هذا المجال بكونه أسطوريا، فإننا لا ننفي عنه صفة الواقعية، إنه جزء من الواقع، إن لم يكن هو العنصر الذي يطبع الواقع كله، كما يتجلى لنا ذلك في الطابع الذي أصبحت تكتسيه المؤسسات التي لها تجدر في الماضي “كالجماعة, الطاطا والعلاقات القبلية”. (بورقية رحمة،1991، ص:168).
عبد الله هرهار