لم يشكل الاحتلال العسكري، سواء قبيل فرض معاهدة الحماية في 30 مارس 1912 أو بعدها، إلا تتويجا لمسار من الغزو الهادئ والفعال، تسرب عبر مسام البنية الاقتصادية للمغرب، وربطها بشكل تدريجي بالمتروبول، الذي عبأ مؤسساته وشركاته لتهيئ البلاد بالبنية التحتية الضرورية، الكفيلة بخلق أجواء الاستثمار الأساسية لمقاولة استعمارية ارتدت لبوس الحماية.
عمليا، لم يبدأ الغزو الأجنبي للمغرب سنة 1912، ولا حتى سنة 1907 مع احتلال كل من وجدة والشاوية، ووضع البلاد بين فكي كماشة، وقضم أجزاء من خريطتها. فسلطة المخزن وسيادته كانتا قد بدأتا في التراجع منذ أن تخلى يوم 9 دجنبر سنة 1856، بمقتضى معاهدة مع بريطانيا، عن العديد من مصادر قوته المالية والاقتصادية. فوهنت الذات واستسلمت لإرادة الآخر، الذي أصر على إقحامها، من موقع الضعف والتبعية، في منظومة رأسمالية، غير مهيأة للاندماج فيها أو حتى مجاراتها. وانتهى هذا المسار إلى مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، الذي وزع كعكة المغرب الاقتصادية بين الدول المشاركة فيه، سواء بالنسب لخيرات البلاد، خاصة المنجمية منها، أو فوز المقاولات الأجنبية بمشاريع تهيئ البلاد بالبنية التحتية، مع بداية ترجيح الكفة للفرنسيين والإسبان.
آليات التوغل
جرى التدخل الاقتصادي الأجنبي في المغرب عبر ثلاث آليات للسيطرة والحد من السيادة المغربية.
ترتبط أولى هذه الآليات بالتدخل القضائي، ذلك أنه لم يكن فرض معاهدات غير متكافئة بين المغرب ومختلف الدول، التي كانت لها مصالح تجارية أو نوايا توسعية، وليد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإن كان الوضع قد تعمق أكثر بعد المعاهدة مع بريطانيا سنة 1856. ففي عهد السلطان محمد بن عبد الله حصلت مجموعة من الدول على امتيازات همت بالأساس القضاء القنصلي والقضاء المشترك، وحماية من يكون في خدمة القناصل أو التجار الأجانب، كما جاء في المعاهدة الموقعة مع السويد يوم 16 ماي 1763، أو في المعاهدة المغربية الفرنسية الموقعة يوم 28 ماي 1767 التي جاء في الشرط الحادي عشر منها: «ومن استخدمه القنصوات المذكورين من كاتب و ترجمان وسماسير وغيرهم فإنه لا يتعرض لمن استخدموه، ولا يكلفون بشيء من التكاليف أيا كانت في نفوسهم وبيوتهم، ولا يمنعون من قضاء حاجات القنصوات والتجار في أي مكان كانوا».
الطيب بياض
تتمة المقال تجدونها في العدد 24 من مجلتكم «زمان»