في أقل من شهر، اهتز الرأي المغربي العام لما تعرض له المرحوم الطفل عدنان بوشوف، بطنجة، من اغتصاب وقتل، فيما صار يعرف بقضية عدنان، ولما عرفته بنت زكورة المرحومة نعيمة الروحي، وقد وُجدت عظامها نخرة بعد إذ قُتلت من قِبل أيادٍ آثمة. كان ما ورد من غضب من لدن المجتمع في ربوع الوطن دليل صحة، في الحالتين. والغضب شعور طبيعي لدى الأفراد كما المجتمعات، ولكن الغضب لا يحل مشكلا، أو يدفع بأسا. لا بد أن نفكر مَليا في ظاهرة اجتماعية مخيفة، بعد أن تفشى الاعتداء على الأطفال، من تعنيف واغتصاب، حتى القتل، و بطرق سادية، ونسائل كل أدوات التنشئة، من مدرسة، وأسرة، ومؤسسات دينية، والخطاب الذي تحمله والأدوات التي تستعملها.
لا يوجد مجتمع يسوده الملائكة، ولن يوجد، ولكن جهد الإنسان هو أن يحد من نوازع الشر الكامنة في الإنسان، من خلال التربية أولا، و فهم مظاهر الجنوح، والزجر ثالثا. معيار الحداثة مثلما سمعت وزيرا إسبانيا للثقافة حاضر في معهد سرفانتس بالرباط سنة 2011 هو العناية والاعتناء بالطرف الضعيف، بالمرأة، و بالأقليات العرقية والدينية، بذوي الحاجات الخاصة، أو ذوي الهمم كما يطلق عليهم في الشرق، وطبعا بالأطفال. وإذا كان هذا معيار الحداثة، أو مؤشرها، فنحن أبعد ما نكون عنها.
ينبغي أن نقر أن الطفل كموضع اهتمام، بصفة مخصوصة، ظاهرة حديثة، وكان يُنظر للطفولة كمرحلة انتظار، حتى سن البلوغ، و يردد، حتى قريب، أطفال اليوم رجال الغد، ولا جدال في الأمر، ونساء الغد كذلك، والأهم أنهم يظلون إنسان اليوم، وينبغي الاهتمام بهم بصفتهم تلك، في كل أوجه الحياة التي تَعرض لهم في مثل هذه السن، من تعليم، وتطبيب وترفيه… وحماية بالأساس.
بُذلت جهود جبارة على مستوى الدولة، والمجتمع المدني، فيما يخص أوضاع الأطفال، ولكننا مجبرون أمام ما وقع، أن نعيد النظر في ورقتنا كما يقول الفرنسيون. وليس الحل أن نتوزع بدافع الغضب، ما بين دعاة الإعدام ومعارضيه، حتى أنه في غمرة التراشق بين الفرقين، ضاع الجوهر، وهو حماية أطفالنا. ومن المفهوم أن تصدر عن الأفراد خواطر ورؤى، ولكن لا نحل المشاكل إلا بالعلم، وبمقاربة علمية. وغاية العلم أن يفيدنا في فهم قضايا معقدة، والتنبؤ بما قد يقع. ولذلك، يتعين بأن نتسلح بالعلم في فهم ظواهر الجنوح، من أجل تفاديها. هو ذا المهم. الجانب الجنائي، وما يراه البعض قصاصا، ليس الأهم، مثلما قال عن صواب النقيب عبد الكبير طبيح في منتدى حماية الطفولة. سبق بعد الحادث البشع الذي أودى بالطفل عدنان، أن تلقيت صورا من بلدان تُجري الإعدام على الجناة، في حالات الاغتصاب في الساحة العامة، وهي البلدان الغائرة اليوم في حروب أهلية. وقد شرح لي مسؤول ليبي، قبل سنتين، أن الأطفال الليبيين كان يحضرون ستاد طرابلس لحضور عمليات إعدام، فاستبطنوا العنف وأخذوا يصرفونه فيما بينهم فيما بعد لأن القتل أصبح عملية مبتذلة. نحن لا نريد أن نغرس بذرة العنف، أو يغلب علينا شعور الثأر. نحن بلد يغلب عليها الجانب العقلاني، رغم عيوبنا، و قدوتنا ليس ما قد يأتي من اليمن أو الأردن، ولكن ينبغي أن يكون ما يقوم في أوربا، أي أن نعتمد مقاربة علمية. وأول ما ينبغي أن نوظفه في فهم هذه الحالات المعقدة التي قد تجنح إلى العنف، هو علم النفس، وأن يتاح للأطباء النفسيين فهم النفسيات المعقدة، وما تنطوي عليها من عقد وكبت، تُصرِّفه حينا يتاح لها ذلك على الأطراف الضعيفة. إلى الآن، تظل نظرتنا لعلم النفس دونية، ونعتقد أن الطبيب النفسي يعالج “المجانين”، وجانب كبير من عمل الأطباء هو تقديم أدوية مهدئة، ولم ينتظم أصحاب المهنة في مؤسسات ومنشورات، عدا من هم أعضاء في منتديات دولية خارجية.
وثاني الأشياء التي ينبغي أن ينصرف لها الاهتمام هي علم الاجتماع، ولا أدري لِم تحشر دراسة علم الاجتماع إلى اليوم في كلية الآداب، وهذا الحشر هو دليل على عدم فهم وظيفة علم الاجتماع ولا التطورات المذهلة التي حدثت في هذا الحقل. فهو علم، يفترض مقاربة علمية، وتكوينا علميا. وليس لنا في بلادنا شيء اسمه علم الاجتماع، وإن كنت لا أنكر وجود علماء اجتماع عصاميي التكوين، ويبذلون جهودا فوق ما يطيقه شخص لوحده.
وثالث الأشياء تطوير وسائل المراقبة، وهو الأمر الذي مكن من توقيف الجاني على المرحوم عدنان، واقتفاء أثر قاتل نعيمة، وينبغي في كلتا الحالتين التنويه بعمل رجال الأمن في الضبط على الجانيين، ومواكبة تطوير الشرطة العلمية.
ويأتي الجانب القانوني بعدها من أجل تحيين النصوص، وتعريف الاغتصاب، وحالاته، وظروف التشديد، حسب الحالات. دور القانون الجنائي ليس الانتقام، ولكن حفاظ حقوق الجماعة والتهذيب. وحتى قضية الإعدام أو عدمه، ينبغي أن نتبنى مقاربة علمية، هل يحد الإعدام، أم لا من أعمال العنف، من خلال الدراسة والمقارنة.
ينبغي أن نفكر في الوسائل التي من شأنها أن تحمي أبناءنا من كل أسباب الزيغ والعنف. الموضوع ليس ترفا، ولا يمكن التصدي له بلغة الغضب ولا الخواطر. الغضب ظاهرة طبيعية، وقد تكون صحية، وتصبح مجدية حين تتحول إلى طاقة للفهم في مقاربة علمية. وهو ما نحتاجه اليوم من أجل حماية أطفالنا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير