تخلو كتابات المؤرخين الأوائل والباحثين من تخصيص موضوعها للحريات في تاريخ المغرب. وإذا استثنينا المتأخرين منهم منتصف القرن الماضي، فإن مظاهر الحرية وتمثلاتها كانت حاضرة في المجتمع المغربي وإن غاب استنطاقها. في هذا الحوار مع الباحث السوسيولوجي عثمان أشقرا، نفتح جوانب لم يتطرق لها الباحثون حول موضوع الحريات الفردية والسياسية والتعبيرية.. منذ القدم وعند رواد الحركة الوطنية، وحتى لدى النخب بعد حصول المغرب على استقلاله، وصولا إلى الفترة الراهنة.
في البدء وبشكل عام، لماذا يستشكل تحديد مفهوم محدد للحرية؟
عند التساؤل حول استشكال تحديد مفهوم الحرية، يحضرني فورا بيت لشاعر فرنسي مرموق: «كم من الفظائع ارتكبت باسمك أيتها الحرية». كما يحضرني الفصل المعنون بـ“ما هي الحرية؟“ في كتاب “أزمة الثقافة“، للفيلسوفة الألمانية حنّة آرندت؛ حيث يبدأ الفصل بهذا التنبيه المتشائم: يبدو طرح السؤال “ما هي الحرية؟“ فعلا يائسا. بل هناك كتاب “العبودية المختارة“ للفرنسي إتيان دو لابويسي، المكتوب منذ قرون والمتضمن ليس فقط استشكالا لمفهوم الحرية على غرار ما فعلته حنّة آرندت، ولكن نفيا وتقويضا للمفهوم ذاته. وفي السياق نفسه، أذكر آخر فيلم مغربي شاهدته بعنوان “العبد“ للصديق المخرج عبد الإله الجوهري المتضمن لفكرة طريفة: فتى مغربي يعرض نفسه عبدا لمن يقبل أن يضمن له معاشه اليومي. أي كما يقول المثل المغربي: «الحرية هي فقط خضرة فوق طعام». بالرجوع إلى السؤال المطروح، فالمطلوب هنا ليس تقديم جرد كامل لتجلي سؤال أو مفهوم الحرية في تاريخ الفكر الفلسفي، هذا موضوع آخر أتركه لأهل الاختصاص الفلسفي. من موقع سوسيولوجيا الفكر عامة والفكر المغربي خاصة، وهذا ما أشتغل عليه، أسجل الواقعة الآتية: اندراج مفهوم الحرية ضمن مجال الطوبى وليس مجال الواقع. وحتى لا يساء فهمي أقول ما يأتي: على عكس ما هو شائع ومتواتر فالمجتمع – أيّ مجتمع – لا يقوم على أساس عقد ما مفترض، يكون بمثابة اللحمة التي تشد المجتمع أفرادا ومجموعات داخل وطن، أو في نطاق دولة، وبالتالي تتبلور شخصية المواطن/ المواطنة بالنسبة للأفراد وصفة/هوية الوطنية/القومية بالنسبة للدولة. إن فكرة العقد السياسي، كما عرضه هوبز في كتاب “الليفياتون“، أو “العقد الاجتماعي“ كما صوره روسو في كتابه المشهور، هما أقرب إلى “الفكرة“ المثالية، وهذا ليس حكم قيمة، منهما إلى الواقعة التاريخية والسوسيولوجية. هذا ما سيكشف عنه مآل الثورة الفرنسية التراجيدي، وبالتالي، ظهور الحاجة إلى “علم“ وضعي يدرس “ستاتيكية“ و“دينامية“ المجتمعات البشرية الواقعية والفعلية. ومن هنا – وكما هو معروف – تأسيس علم الاجتماع منسوبا إلى الرواد: أوغيست كومت وهربرت سبنسر وكارل ماركس وإميل دوركهايم… والواقعة الأساسية والتأسيسية هنا، هي فصل منطق الطوبى عن منطق الواقع، بدون أن يعني هذا قطعا خلو المجتمع من أي تأثير للطوبى أو الإيديولوجيا. بالعكس، وكما سيكشف عنه تطور علم الاجتماع نفسه في سياق الدراسات السوسيولوجية الدقيقة والمتخصصة لاحقا للأفكار والعقليات…
على ذكر الحبابي، لماذا قلّ البحث والكتابة عن المفهوم في تاريخ المغرب؟
إذا عنينا بسؤال التاريخ المغربي منذ القديم إلى حدود القرن العشرين، فالسؤال بدون معنى؛ أولا: ندرة المتن الأمازيغي المكتوب حتى لا أقول ما هو أكثر. ثانيا: انحسار المتن المكتوب بالعربية أساسا في مجال الفقه العام والنوازل والتاريخ الرسمي .والحرية كمفهوم مجرد وذهني، هي غائبة بالكامل في نصوص هذا المتن في حدود ما تم تحقيقه ونشره إلى حد الآن، ويتيسر بالتالي الاطلاع عليه. لكن الحرية كممارسة مقيدة بالحدود الدينية والشرع الإسلامي، هي بالطبع حاضرة. وهنا يحضرني نصان بارزان يمكن اعتبارهما معبرين في هذا الصدد؛ النص الأول للعالم أبي الحسن اليوسي في القرن 17م، مذكور في كتابه “المحاضرات“ في فصلين قصيرين معنونين تتاليا بـ“الحكم التكليفي والحكم التصريفي“ و“النفس والشيطان“؛ حيث يغيب لفظ “حرية“، ولكن يحضر مضمونها الشرعي. والنص الثاني للمؤرخ أحمد بن خالد الناصري منشور في الجزء التاسع من كتاب “الاستقصا“ حيث يحضر لفظ “حرية“، ويميز فيه الناصري صراحة بين الحرية [الفرنجية] التي ينعتنها بالزندقة لأنها تستلزم إسقاط حقوق لله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية، ويفصل القول في هذا الصدد مختتما بأن الحرية الشرعية هي التي ذكرها لله في كتابه وبيّنها الرسول لأمته وحررها الفقهاء في باب الحجر في كتبهم.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 116 من مجلتكم «زمان»