لم تكن فاس، دائما، كحاضرة مضيئة في الغرب الإسلامي ككل، بل عرفت “فترة” غاب فيها السلطان، وانعدم كل وازع أخلاقي، ثم سادت فيها عصابات لم توقر عالما أو ذا شرف أو صاحب جاه.
صورة مدينة فاس كحاضرة المغرب، بل الغرب الإسلامي ككل، هي صورة مُشرقة؛ مدينة العلم والمدارس والجوامع والقصور ذات المعمار الأندلسي، والبساتين الغناء بعيونها الجارية. كل هذه الصور المُضيئة تكسرت فجأة عندما انهارت الدولة السعدية، ثم تكسرت مرة أخرى عقب وفاة السلطان المولى إسماعيل في سنة 1727 عندما انعدم الوازع السياسي، وانعتقت العصبيات المحلية من قيودها، فسادت العصابات المتناحرة، وامتدت الأيادي لإزهاق الأرواح بمبرر أو بدونه، ولم توقر في ذلك عالما أو شريفا أو صاحب جاه. مدينة امتلأت أزقتها بجثث الهالكين بفعل عنف الإنسان وقساوة الطبيعة التي حبست المطر، وتسببت في مجاعة قلما عرفت البلاد مثيلا لها. تلك هي صورة الحاضرة الإدريسية لمدة ثلاثين سنة، بين 1727 و1757 كما تعكسها التقاييد التاريخية لمحمد بن إبراهيم الدكالي. تقاييد بقيت مغمورة وشبه مجهولة لدى المؤرخين لوقت طويل، إلى أن أقدم على تحقيقها مؤخرا وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية الباحث الأمريكي نورمان سيـگار.
إلى جانب التواريخ الكبرى التي أرخت للمغرب ككل مثل كتاب “القرطاس“ لابن أبي زرع الفاسي، أو “الاستقصا“ للناصري السلاوي، يعتمد المؤرخون على ما يسمى بالتقاييد، وهي نوع من السجلات التي يقيد فيها صاحبها ما عاشه أو شاهده من أحداث. مزية هذه التقاييد أنها مصادر مباشرة تسجل الحدث في وقته، لكنها تبقى مشفرة ومختصرة لأن صاحبها لا يتوقف كثيرا ليحلل أو يعلق على الأحداث. من مزايا هذه التقاييد كذلك أنها تهتم بالتاريخ المحلي، أي أن صاحبها يركز في الغالب على تاريخ بلدته أو المحيط المحدود الذي عرفه وعاش فيه. ومن هنا أهميتها بالنسبة لمؤرخ العصر الحاضر لأنها تسلط الأضواء على التاريخ المحلي وتفاصيله التي تضيع في الكتب التاريخية الكبيرة.
محمد المنصور
تتمة المقال تجدونها في العدد 120 من مجلتكم «زمان»