يذكر بشير بومعزة في مذكراته، وهو من قياديي جبهة التحرير الوطنية وكان إذاك في غياهب السجن، إبان حرب التحرير أن أتى الحراس فجرا ليقتادوا مجاهدا مغربيا للإعدام. انتهى صوته إلى المعتقلين وهو يذرع دهاليز السجن إلى الموت يصدح قويا: عاشت الجزائر حرة، عاشت الأخوة المغربية الجزائرية. ثم يعقب بومعزة، في حسرة، أكان من اللازم أن يموت مرتين ؟
لم يتحقق الأمل الذي نذر الشهيد المغربي من أجله حياته. لقد كانت حرب التحرير بوتقة انصهرت فيها مكونات الجزائري، واغتنت بدعم القواعد الخلفية في تونس والمغرب، من أجل وحدة مغاربية، وأدت ساكنة هذه القواعد ثمنا باهظا كما في عين الشعير بالتراب المغربي التي قصفتها القوات الفرنسية، أو جبال الكربوز قرب وجدة، أومجزرة ساقية سيدي يوسف بالتراب التونسي. وقامت بالزغنغن مخيمات تدريب لجيش الحدود. ثم كان اختطاف القادة التاريخيين في طائرة مغربية، وهم متوجهون إلى تونس، وكان الموقف الشهم للملك محمد الخامس الذي أراد أن يقايض بابنيه القادة التاريخيين وقال قولته المدوية التي لم ينسها الجزائريون: لَأن تحتجز فرنسا ابني مولاي الحسن ومولاي عبد لله رهينتين، أهون لدي من أن تحتجز ضيوفي.. كان الشريط الحدودي في شرق المغرب امتدادا للمجاهدين من الفلاكة، وكانت أعلام المغرب والجزائر ُترفرف فوق سطح البيوتات في وجدة وقصر السوق وتين درارة، من غير تمييز ولا حرج. وحين تحركت الدبلوماسية الفرنسية من أجل إجراء تسوية فيما يخص الحدود، تحركت قيادات جبهة التحرير لعقد مؤتمر طنجة، من أجل إرجاء قضية الحدود، التي رأت فيها مناورة استعمارية، وتجند القادة التقدميون من حزب الاستقلال، الشهيد المهدي بن بركة والمرحوم عبد الرحيم بوعبيد، لتقديم الأخوة المغاربية على كل اعتبارات. كانت روح لقاء طنجة هي تجاوز القوالب الاستعمارية، هي تقديم الشعوب على الدول.
ثم استقلت الجزائر بعد حرب مريرة.
كانت أول زيارة قام بها المرحوم الحسن الثاني خارج المغرب هي للجزائر المستقلة، وقدم هدية لدعم الدولة الجزائرية الفتية. ثم وقعت حرب الرمال، وتحول النهر عن مجراه بتعبير الكاتب الجزائري رشيد ميموني. لم تتم قراءة دقيقة لهذا الحادث. فهو عسكريا لا يعدو أن يكون مناوشات عادية، كما يقع في الحدود، ولكنه كان مؤشرا لتصور للدولة الجزائرية، ينبني على إرث الإدارة الفرنسية، وفق تصور مركزي، لا يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية، ويجهز من ثمة على أرضية مؤتمر الصومام الداعية لدولة تعددية. من خلال حرب الرمال، تم الإجهاز على تمرد القبائل، أو بتعبير أصح، تم قمع التوجه الذي يرعى الخصوصيات ويندرج في أفق عصري لدولة حديثة، لا دولة ذيلية للشرق. عرف المغرب ذات الشيء، إذ عقب الاستقلال انتفضت منطقة تافيلالت، وُنظر إلى المسألة نظرة اختزالية تحقيرية. كانت الاستقلالات، هنا وهناك، انسكابا في القوالب الموروثة عن الاستعمار، والأَمرّ كانت تكريسا لهيمنة الأجهزة على حساب الشعوب. وبشكل من الأشكال، سوف يُقدّم المغرب الذي نُصب عدوا، خدمة للدولة الجزائرية وفق هذا التوجه، مثلما ستقدم الجزائر خدمة للمخزن. كلاهما العدو الضروري.
سوف يؤجج السياق الدولي للحرب الباردة الخلافات بين توجه اشتراكي، يتبنى الاقتصاد الموجه، والحزب الوحيد، وتوجه، ُينظر إليه كنظام رجعي، وكقاعدة خلفية للامبريالية. ليست الصحراء هي سبب المشكل، هي على الأصح أحد تجلياته. وبتعبير آخر، لو لم يكن هناك قضية الصحراء لكان هناك شيء آخر. ألم يقل المرحوم بومدين عنها إنها “حجرة في “سباط” المغرب”؟
في حمأة التوتر، ظلت هناك خطوط حمراء لم يتجاوزها أحد من مسؤولي البلدين. كانوا واعين بالتداخل المجتمعي، والأواصر بين البلدين، رغم تجاوزات مؤلمة أدت أسر ثمنها. لاحت في الأفق منذ 1988 بوادر انفراج، هي التي هيأت لاتفاقية الاتحاد المغاربي. بيد أن الجزائر عرفت فترة اهتزازات، دفعتها إلى الاستنجاد بالشرعية التاريخية من خلال المناداة على محمد بوضياف. ظل المرحوم بوضياف وفيا لتوجه الثورة، وفيا لذكرى الشهداء، غير أبه بمنطق الدولة، مؤمن بتمازج الشعبين. و اغتيل بوضياف، وعاد منطق الدولة، وأغلق قوس الانفراج. كان إغلاق القوس يحتاج إلى مبررات، وهي التي تم استعمالها جراء حادث أسني في غشت 1994 من الطرفين.ثم عاد ابن وجدة من منفاه الطويل وانتخب رئيسا للجزائر في 15 أبريل من سنة 1999، وبتاريخ 17 أبريل قدمت التلفزة الجزائرية مسرحية عن أمير يمزج الراح والروح. كان ذلك إيذانا أن منطق الأجهزة مستمر هنا وهناك.
تكتنف العلاقات بين البلدين ظلال تحجب الرؤية، لكن الشعبين ظلا يرتبطان رغم كل أسباب التعتيم بأواصر قوية.. تتداخل انتماءاتهما التي تهزأ بمنطق الدولة، وبرسم الحدود. يرتبط المناضل الأمازيغي من المغرب بمرجعيات ضربائه في تيزي ووزو. يحن ابن الأندلس من فاس لأبناء عمومته في تلمسان، ويرتبط مريد الزاوية التيجانية بـ«الفقرا» من المريدين في البييض، حيث مولد الولي الصالح سيدي أحمد التيجاني، ويحج المتحدرون من الدوحة
الشريفة بالجزائر إلى مولاي إدريس، ويتلو المادحون في دار المخزن في عيد المولد النبوي أشعار سيدي بومدين الغوث، وإذ يحل فريق المغرب لكرة القدم بعنابة يُلاقى بالترحاب.
الراسخون في الوعي يدركون أن البلدين شعب واحد، وأن مصيرهما واحد، وأن الفاتح من نونبر عيد للجزائريين وعيد للمغاربة، أجمعين. يفتخرون جميعهم بماسينيسا ويوغرثن ويوبا ويسين والقديس أغسطين، وديهيا وطارق بن زياد وعبد المومن، ويعقوب المنصور، و الأمير عبد القادر وعبد الكريم، وللافاظمة نايت سومر، ومحمد الخامس، وبن بركة، و بوضياف. هذا الذي يمكث في وجدان الشعبين. وأما الزّبد فيذهب جُفاء.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير