عمل المغاربة، منذ القديم، على التميز عن نظرائهم في المشرق، وكانت القبيلة في البداية محددا للانتماء، قبل أن يحضر الدين ويضفي على الولاء مسحة روحية.
كلما عنت لشخص أو جماعة ما فكرة الانتماء، إلا وتبادر إلى الأذهان سؤال الوطن/ الأرض/ الحضن/ الأصل/ المجال/ الهوية/ الجنسية. تحيل كل واحدة من هذه التسميات على مسميات متفاوتة الدلالة والأبعاد، لكن قد تلتقي عند تقاطع الارتباط الوجداني بين الحمية والاعتزاز أو التنكر والجحود. هذه العلاقة أو هذا الشعور قد يكون مستبطنا ضمن مخيال وتَمثُل جماعي، يبدأ إعداده بالتربية داخل البيت مرورا بالمدرسة وانتهاء بآليات التوجيه والتأثير الأخرى المختلفة. وقد يحدث أن تفشل كل هذه الآليات، أو يضعف تأثير أحدها فتظهر متغيرات جديدة جديرة بزعزعة هذا الشعور وتحويل البوصلة، ومن ثمة ليس هناك ثبات، بل الأمر خاضع للمؤثرات ودورها في تغير المسارات والاختيارات والولاءات.
في البدء كان الانتماء محددا بالقبيلة حينا، وباللسان أحيانا أخرى، وبينهما حضرت الأرض بدرجات متفاوتة، ثم ظهرت المسحة الدينية، وأضفت على الولاء سمة روحية.
سعى المغاربة منذ القديم إلى تمييز كيانهم عن المشرق، خاصة بعد أن أذاقهم الولاة العرب صنوفا من الإهانة والتعسف. وحضرت أسماء دالة في هذا الشأن، قد تبدأ بكسيلة الأَوربي، مرورا بميسرة المطغري، وليس انتهاء بصالح بن طريف. ومن زمن الإمارات والكيانات الصغرى المستقلة عن الشرق، إلى زمن الدول/ الإمبراطوريات، بدأ يتشكل بطريقة جنينية وتدريجية الإحساس ثم الوعي بمجال له خصوصيته، أطلق عليه اسم المغرب الأقصى. هذا الفرز المجالي، الذي ساعد الموقع الجغرافي في تحققه، لم يكن ليعني القطيعة مع المشرق، فأحيانا كانت تتم الدعوة في المساجد لخلفائه، قبل أن ينتظم ركب الحجيج المغربي في اتجاهه، مما أشر على علاقة روحية وانتماء وجداني إلى مجال أوسع، من المغرب الأقصى، عُرف بدار الإسلام، في مقابل دار الكفر، أو بلاد المسلمين، في مقابل بر النصارى. استمر هذا الانتماء العائم إلى الأمة طويلا، وحينما انتقلت دار الكفر إلى تخوم المغرب، زاد ترسخ المفهوم المجالي والترابي للوطن بدل المفهوم الروحي، زمن الانتقال من خرائط الشريف الإدريسي إلى خرائط محددة لكيانات قطرية، متماهية مع تقسيم كعكة المستعمرات بين الدول الأوربية. ساعتها بدأ المغاربة يتعبأون لحماية خريطة بلدهم، التي انقضت عليها الأرضة الأوربية تقضمها جنوبا وشرقا. ولما أصبح الاستعمار أمرا واقعا، وقام بمحاولة تفتيت البلاد إلى كيانات خاضعة لإشكال مختلفة من الاحتلال، كان الجواب المغربي في شكل إشارات تحمل أكثر من دلالة. فرحلة السلطان محمد بن يوسف إلى طنجة في أبريل سنة 1947، عبرت من منطقة الاحتلال الفرنسي إلى منطقة الاحتلال الإسباني في الشمال، قبل أن تصل منطقة طنجة الدولية. بعد عشر سنوات على هذه الرحلة، جاء التحرك تشييدا في الشمال لطريق الوحدة، وكفاحا جنوبا في شكل عمليات لجيش التحرير.
شكلت المسيرة الخضراء سنة 1975 محطة لاحمة للشعور الوطني، وتعبأ المغاربة لهذا الحدث الذي جسد بوتقة انصهار لإحساس قوي بـ”تامغربيت”. لكن متغيرات كثيرة، محلية وإقليمية، أعادت إلى الواجهة ذلك الانتماء إلى وطن هوياتي، بمحمولاته المختلفة، مما استدعى ضرورة فتح نقاش الوطن، دلالة وأبعادا في تشكله البطيء، في المدة الطولية.
الطيب بياض
تتمة المقال تجدونها في العدد 26 من مجلتكم «زمان»