حلت، منذ أيام، ذكرى عير العرش، واحتفل المغرب بالذكرى الخامسة عشر لتولي الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية. وبعد أسابيع ستحل ذكرى 20 غشت 1953 المعروفة بـ«ثورة الملك والشعب». للاحتفالين تاريخ، هو تاريخ تبلور المغرب المعاصر. فإلى حدود عشرينات القرن الماضي، لم يكن المغاربة يحتفلون بشكل شعبي وحميمي إلا بالأعياد الدينية.
مع مطلع ثلاثين القرن العشرين، وتحت سيطرة الاستعمار على الجزء الأكبر من البلاد، دخل الوطنيون المغاربة في صراع استراتيجي مع سلطات الحماية حول أسس الشرعية السياسية في المغرب. فخرجوا بذلك من ثقافة رد الفعل الهوياتية إلى نهج مدني يواجه المستعمر في فضائه الثقافي وداخل منظومته القيمية. ألم يكن المستعمر يشرعن لوجوده بترويج مقولة «الرسالة الحضارية للغرب»؟ فركز الوطنيون على رابطة القانون وعلى المنطوق القانوني لعقد الحماية الذي يشدد على أن سلطان المغرب هو المجسد للسيادة الوطنية، وبالتالي فهو رمز الشرعية. ووفقا لهذا النهج المدني أسس الوطنيون سنة 1933 الاحتفال بعيد العرش كيوم لتمجيد الوطن والانتفاض ضد السياسة الهيمنية للحماية وواقع الدونية الذي فرضته على المغاربة ومؤسساتهم ورموزهم. وكان من الطبيعي أن ينمو ويتطور هذا الوطن الناشئ في خضم ثقافة جديدة، من إحدى مقوماتها نصرة السلطان واستيعاب علوم الزمان. فتأسس الاحتفال بعيد العرش، كأول عيد مدني، كنضال ومواجهة لشرعية المستعمر المزعومة. هكذا، تأسست «العروة الوثقى» بين السلطان والوطنيين كتحالف استراتيجي من أجل مغرب عصري متراص الصفوف، قاعدته وطنية متفتحة ومندمجة في عصرها.
ستتبلور هذه الوطنية تحت ضربات التوجهات الاستعمارية المتطرفة والمصالح الأمنية للحماية الفرنسية في المغرب. وبالرغم من توزع هذه الوطنية إلى وطنية ملكية وأخرى شعبية، فإن العروة الوثقى بينهما لم تنحل، بل تصلبت أمام محاولات التركيع التي قادها الجنرالان جوان وكيوم. وخلال مرحلة شد الحبل بين الإقامة العامة والوطنيين، ابتكر المغاربة أشكالا من التضامن المتبادل أعطت للمطالبة بالاستقلال أبعادا روحية وشعبية، بالرغم من انسياق جزء من نخبهم وراء الاستعمار وإغراءاته.
وسجل التاريخ أنه عندما سعت سلطات الحماية إلى إغلاق فضاءات التعبير المدني واعتماد سياسة القمع والترهيب بحل الأحزاب والنقابات ومنع صدور الصحف الوطنية، احتج السلطان ودخل في مواجهة مفتوحة مع المقيم العام عرفت بـ«إضراب الخاتم»، أي الامتناع عن توقيع الظهائر. كما أنه عندما قررت الحكومة الفرنسية، باقتراح من الجنرال كيوم، إقالة السلطان سيدي محمد بنيوسف ونفيه من المغرب، انتفض الوطنيون وأسسوا شبكات المقاومة المسلحة ثم وحدات جيش التحرير المغربي، ودعموا من جديد الروابط العضوية بين الوطنية الملكية والوطنية الشعبية، فيما بعض النخب المغربية زكت الاعتداء الاستعماري على الشرعية المغربية بالمساهمة في مبايعة محمد بن عرفة. أدى هذا التحالف الضمني المتين، إلى طرح استقلال المغرب على جدول أعمال السلطات الفرنسية في ظرف قصير نسبيا. وهو معطى سياسي كبير مؤسس للمغرب المستقل. وفي سياق الاعتراف به وتسجيله بمداد من ذهب في عمق الذاكرة الجماعية للمغاربة، أسس الوطنيون الاحتفال بذكرى 20 غشت وأطلقوا على هذا العيد المتميز «ذكرى ثورة الملك والشعب». والواو هنا، كما يقول أهل النحو، ليست واو العطف ولا واو الاستئناف، بل هي واو المعية، وواو للجمع والشراكة. كانت هذه هي روح الاستقلال.
نعرف جميعا أن الاختلافات حول بناء الدولة الوطنية، بدأت مع المفاوضات من أجل الاستقلال، وستتعمق أكثر بعد وفاة محمد
الخامس في مناخ من العنف والعنف المضاد. وسيتوفق الملك الحسن الثاني، مستغلا ترددات وانقسامات الوطنية الشعبية، في ترسيخ التوجهات المحافظة داخل المجتمع وتأسيس دولة قائمة على الحكم المطلق وسمو الشرعية الملكية على كل الشرعيات الأخرى.
بعد ثلاثة عقود، ستصل التوجهات الرسمية للملكية إلى الباب المسدود. وسيعلن الحسن الثاني من أعلى قبة البرلمان بأن المغرب «مهدد بالسكتة القلبية». فانطلقت من جديد مسيرة إشراك فعاليات أخرى في حكم وتدبير البلاد. فجاء «التناوب التوافقي»، كمحاولة غير مكتملة، موسومة بالتردد والتوجس، لتظهر أن عمق الاختيارات لم يتغير. فساءت الوضعية أكثر، وتوسعت فضاءات الاحتجاج جراء تفاقم الفقر واتساع رقعة الفوارق المجتمعية. فدقت حركة 20 فبراير ناقوس الخطر، فتفاعل محمد السادس معها بسرعة ملحوظة، لتفتح سيرورة إصلاحات متعددة، لكنها اصطدمت من جديد مع الإرث المحافظ للمجتمع والنزعات الزبونية والانتفاعية داخل الدولة، التي تهدد بانحسار آخر لسيرورة التغيير.
فلأننا نحتفل كشعب بأعياد خالدة، فإننا نستحضر الأمل، الذي تكتنزه مقولة «ثورة الملك والشعب»، ونتمنى للمغرب أن يثمر الوعي الوطني سيرورة تفاعل والتقاء كفاءات الوطن تفضي إلى إنتاج «مشترك حداثي» ندخل به الألفية الثالثة كشريك مساهم في العولمة، لا كضحية لها.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام