يعود أسلوب المقاطعة في المغرب، لأول مرة، إلى منتصف القرن 19، حين بدأت البلاد تخضع للهيمنة الأجنبية. ومنذئذ، أطْلِقت دعوات لمقاطعة “أهل الكفر والفسوق”، وكل من يدور في فلكهم.
لفتت مقاطعة شرائح واسعة من المغاربة لسلع ثلاث شركات أنظار الرأي العام داخل المملكة خاصة بعد تصريحات بعض الوزراء حكومة العثماني أمام البرلمان، أو تصريحات بعض مسؤولي تلك الشركات. كما اهتمت بعض وسائل الإعلام الدولية بتغطية هذا الحدث ومحاولة تحليل بعض مظاهره الشعبية وتطوراته السياسية. غير أن هذه المقاطعة لا تعتبر دخيلة على التركيبة الاجتماعية بالمغرب، بل تشكل امتدادا تاريخيا لتعامل مكونات هذه التركيبة مع المستجدات الاقتصادية التي عرفتها البلاد منذ منتصف القرن 19، وخضوع المغرب للهيمنة الأجنبية سواء على الصعيد الاقتصادي، أو السياسي.
مقاطعة “أهل الباسبور الحثالة”
عرف المغرب، خلال القرن التاسع عشر، مجموعة من التحولات الجذرية ارتبطت بتنامي التدخل الأجنبي التي أثّرت على بنيات المغرب الاقتصادية وعلاقة الدولة بنخبها السياسية، حيث حاول السلاطين المغاربة التقرب من كبار التجار لخبرتهم في التعامل مع الأوربيين، وللتجربة الكبيرة التي راكموها في التجارة مع هؤلاء الأجانب. وقد بدأت الدولة تتخلى تدريجيا عن بيروقراطيتها التقليدية المكونة أساسا من كبار الفقهاء والعلماء، غير أن هذه الأخيرة لم تحتمل هذه التحولات، فشنّت حملة عشواء على كبار التجار ورمتهم بالكفر والفسوق، وهو الأمر الذي يبرز التصادم الكبير بين الفئتين والصراع حول المكانة والنفوذ الذي وصل مداه خلال هذه الحقبة. وهكذا، قام العلماء والفقهاء، بوصفهم ضمير الأمة الإسلامية والمعبر عن رأي الجماعة الإسلامية، إلى مهاجمة الامتيازات العديدة التي كان يتمتع بها التجار، وعابوا عليهم على الخصوص احتماءهم بالأجنبي، مستنكرين ظاهرة الحماية القنصلية التي انطلقت من مبدأ حماية التاجر الأوربي ومن يتعلق به في العمل، ثم انسحبت على من يتعلق به في التعامل مع التجار المغاربة. فبالإضافة إلى الخسائر المالية التي ألحقتها هاته الظاهرة بخزينة الدولة وهو ما كان يثير حنق السلطة المركزية، فإن العلماء نظروا إليها على أساس أنها مساهمة جادة في تسهيل مأمورية الأوربيين الطامعين في احتلال البلاد والقضاء على شخصيتها، عن طريق محو عقيدتها ونشر الأفكار والتقاليد الأوربية. وقد بدأت تهمة مهادنة الأوربيين توجه إلى التجار عموما وتجار فاس على وجه الخصوص منذ 1860، حيث كان الفقيه العراقي أول من أطلق عليهم تلك التهمة صراحة حين قال: «ومشاورتنا للسفهاء من التجار الذين لم يباشروا الحرب ولا قاربوا ساحتها لكونهم جبلوا على الجبن. وقد استولى حب الدنيا على قلوبهم واشتاقوا إلى معاشرة الروم وأرضهم، كما تعلن بذلك ألسنتهم لدى الخاص والعام». ثم توالت، بعدها، الصيحات الداعية إلى مقاطعة المحميين من التجار، بل إن العلماء من كفّر أفراد تلك الفئة، كما ورد عن العربي المشرفي، في مؤلفه «الرسالة في أهل الباسبور الحثالة»، الذي جاء فيه: «وبعد، فقد توجه سؤال لأهل العلم، حفظهم لله بحفظ أهل السنة، وفي حادثة حدثت في قرننا هذا في حدود السبعين والمائتين والألف، وهي دخول المسلمين تحت كلمة الكفر ويعبرون عنها بالحماية معتذرين بها عن تحصين أموالهم من ثقل المغارم، مع أنهم يجعلون حظا وافرا لمن يحميهم بإذلال وطيب نفس، فهل يكون المحتمي بالحماية على هذه الحالة مسلما عاصيا، أو خرج عن دينه بالكلية، وللإمام أن يحكم فيه بالاجتهاد؟».
مقاطعة التجار أيضا
أورد أحمد بن خالد الناصري حادثة مقتل أحد تجار فاس جراء احتمائه بالأجنبي، إذ «في سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف حدثت فتنة بفاس، وذلك أن الناس كانوا في صلاة الجمعة بمسجد القرويين، وكان فيهم التاجر الأمجد أبو عبد لله حبيب بن هاشم بنجلون الفاسي. فلما سجد مع الناس شرخ بعض اللصوص رأسه بحجر كبير من أحجار التيمم التي تكون بالمسجد، ثم انحنى عليه بخنجر كان بيده، فقطع به بطنه». لم يقتصر تهجم الفقهاء وتعبئتهم للعامة على مقاطعة التجار وامتيازاتهم الناجمة عن نظام الحماية الأجنبية الذي كانوا يستفيدون منه، بل شمل أيضا دعوتهم إلى مقاطعة البضائع والسلع الاجنبية، حيث تنوعت آراء العلماء وفتاوي الفقهاء مثلا في سكر القالب والشاي والقهوة، وفي حكم التبغ و”طابا” وفي الدجاج الرومي وفي الخميرة الرومية… فضلا عن البضائع الأخرى المصنعة، كالتجارة في البضائع المستوردة التي كتب عليها «اسم لله واسم الرسول صلى لله عليه وسلم» بدافع الإشهار، وحكمهم في صابون المشرق المجلوب من بلاد الكفار، وصابون أهل الذمة وغير ذلك من السلع الأجنبية.
هكذا، أثارت مسألة الاتجار مع الأوربيين جدلا كبيرا دفع الكثير من العلماء إلى تناولها بالدراسة والتحليل لِما أثارته من إشكالات عدة، سواء لدى العامة أو الخاصة. وقد ارتبطت معظم النوازل الفقهية بالجهة مصدر السلعة. وهكذا، سنجد أن التبغ مثلا لكون بعضه يرد من الجنوب، فقد وجد في بداية الأمر من يقول بجوازه. ولما توالى وروده من الغرب تشدد الفقهاء في منعه، إلى أن قام المخزن بتسريح أمره، بيد أنه بقي مثار جدل، بحيث ما زال يعامل من التقبيح أكثر مما يحمل من الرفعة داخل المجتمع المغربي.
ولم يكتف العلماء بمنع التجار من السفر إلى أرض “الحرب”، بل منعوا كذلك تصدير السلع المغربية إلى بلاد الكفار، حيث شمل هذا المنع خاصة المواد الرئيسية، كالقمح والتمر والخيول وغيرها، فقد رأى الفقيه البلغيثي أن «مما شاع، الآن وقبل، وهو من المحرمات، شراء التمر الجيد والتغالي فيه وتوجيهه إلى بلاد الكفار من أهل الحرب لبيعه لهم في مواسمهم وغيرها بالثمن. وقد تقرّر عند الفقهاء والأئمة الخلاف في بيع الطعام للكفار الحربيين في زمن الرخاء والهدنة، والمشهور هو مذهب ابن القاسم وهو المنع، ولو في الهدنة والرخاء… وشمل المنع بيع البقر ونحوها لهم، بما في ذلك من إغلائه على المسلمين وتقوية للكفار على كفرهم حتى بالنسبة للجلود والحديد والخيل ونحوه، وخاصة آلة الحرب…».
مقاطعة “الكومير” ومساجد بن عرفة
لقد كرست معاهدة الحماية النفوذ السياسي والاقتصادي لفرنسا بالمغرب، حيث اتجهت سلطات الحماية إلى جانب سياستها العسكرية والسياسية إلى استغلال الموارد الاقتصادية المحلية من خلال الاستثمارات التي مولتها أكبر الشركات المالية الأوربية، ومن بينها “بنك باريس والبلاد المنخفضة” و”شركة شنايدر وشركاؤه” و”بنك الاتحاد الباريسي”. وكان قد عهد إلى هذه الشركات تنمية موارد المغرب الاقتصادية لخدمة الأسواق الخارجية، عن طريق استغلال الأراضي وتوطين الجالية الأوربية وإنجاز الأشغال الكبرى المتعلقة بالبنية التحتية. وقد كان نصيب القطاع الفلاحي مهما، في هذه الاستثمارات، فتأسست بالمغرب عدة شركات زراعية من ضمنها “الشركة المغربية” و”ضيعة بني عمار” و”الشركة المغربية للزراعة والمقاولات” و”الشركة الزراعية لولاد دحو”…، كما اهتمت الاستثمارات الاستعمارية بالنشاط الصناعي الذي يتطلب رأسمالا محدودا، ويحقق أرباحا مرتفعة كالنسيج والصناعة الاستخراجية وخاصة الصناعة الغذائية. حيث تمركزت معظم شركات هذه الصناعة في الدار البيضاء بالنسبة للمنطقة السلطانية، وفي تطوان بالنسبة للمنطقة الخليفية، والتي كان من أبرزها صناعة المطاحن والمعلبات والسكر والشاي والمحروقات… وقد أقبل المغاربة بالتدريج على استهلاك مثل هذه المنتجات التي بدأت تقتحم نمط معيشهم اليومي الذي كان يقتصر على استهلاك منتجاته المحلية والتقليدية. لكن بسبب المعارض التجارية والسماح بفتح مجموعة من المتاجر خاصة متاجر التقسيط، تحول المغاربة خاصة في المدن إلى استهلاك هذه المنتجات والسلع الأجنبية مثل الخبز الرومي أو ما كان يسمى بـ”الكومير” و”الباريزيان”، وكذا بعض منتجات الحليب ومشتقاته بالإضافة إلى المشروبات الغازية بكل أنواعها. ولعل هذا ما دفع بمكونات الحركة الوطنية في مناهضتها للوجود الاستعماري الفرنسي إلى استخدام مقاطعة المنتجات الفرنسية، كسلاح للضغط السياسي على سلطات الحماية في خضم الصراع حول استقلال المغرب متأثرة في ذلك ببعض الأفكار السياسية للزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي دعا الهنود، في إطار سياسة العصيان المدني ضد الوجود الانجليزي، إلى مقاطعة المنتجات الأجنبية وخاصة شراء النسيج الأجنبي. هكذا، تصاعدت أعمال الوطنيين بعد نفي الملك محمد بن يوسف وأسرته خارج البلاد لتتخذ شكل مقاومة عنيفة ومباشرة. فإلى جانب تبني سلاح المقاومة المسلحة الذي استهدف رموز الاحتلال الفرنسي، كالمقيم العام الجنرال كيوم الذي نجا من محاولة اغتيال بقنبلة في مراكش وكذا بن عرفة الذي تعرض لعملية اغتيال من طرف المقاوم علال بن عبد لله أثناء توجهه لصلاة الجمعة، تم اللجوء إلى سلاح المقاطعة الاقتصادية للضغط على سلطات الحماية ومن خلالها على دوائر القرار بالمتروبول . وفضلا عن ذلك، تمت الدعوة إلى مقاطعة المساجد التي يذكر فيها اسم بن عرفة، والمؤسسات التعليمية الفرنسية والأجنبية، وأيضا مقاطعة السلع الفرنسية خاصة التبغ والحليب وبعض المنتجات الأخرى.
محمد شقير