لا يمكن تصور حياة مجتمعية من دون حياة عامة أو سياسية، أو بتعبير لأحد فقهاء القانون الدستوري، فقضايا الناس هي الشؤون السياسية، والشؤون السياسية هي قضايا الناس. من الطبيعي أن تنصرف اهتمامات الناس إلى شؤونهم الخاصة، ولكن شؤونهم الخاصة ليس منفصلة عن شؤون العامة. الأمن والتعليم والصحة والشغل والبنيات التحتية كلها قضايا عامة، ولكنها تؤثر على الشؤون الخاصة للأفراد. ومن الطبيعي أن يكون هناك اهتمام من المواطنين بالشأن العام. والمواطن، حسب التعريف الذي قدمه أرسطو، هو شخص قابل أن يكون حاكما ومحكوما. التعريف الذي قدمه أرسطو أوسع من التعريف السائد، من شخص له حقوق وعليه واجبات.
في الدولة الحديثة تمارس السياسة فيما يسميه طوماس هوبز بالمجتمع المدني. أهم عنصر في هذا المجتمع المدني هو الدولة التي هي تعبير عن عقد اجتماعي. تطور مصطلح المجتمع المدني ليتمايز عن الدولة، وأضحت هناك مؤسسات موازية، متمايزة عن الدولة، منها الأحزاب والنقابات أو ما يمسى بالهيئات الوسيطة… ولا يمكن تصور ممارسة السياسة من دون هذه الهيئات.. مثلما لا يسوغ أن تتصرف الدولة كما لو هي هيئة مدنية، ولا يُتصور أن تتصرف هيئة مدنية كما لو هي الدولة.
يكاد ما قلته هنا يعتبر من باب السماء فوقنا، وأدبيات معروفة تلوكها الألسن، ولكن الهيئات الوسيطة، لم تعد وسيطة، أو أصبحت محارات فارغة. لنأخذ فرنسا، من خلال ظاهرتين، أولا، بلوغ منتخب سُدّة الرئاسة، من دون المرور من مصفاة الأحزاب، أو المؤسسات المنتخبة، وثانيا، التعبير عن الاحتقان المجتمعي خارج النقابات والأحزاب السياسية، التي كانت هيئات وسيطة، من خلال البدلات الصفراء.
أزمة الهيئات الوسيطة هي أعمق بالنسبة للمجتمعات التي ليس لها تقاليد ديمقراطية، أو هي في طور الانتقال الديمقراطي. النتيجة وهي أنه حينما تكفُّ الدولة من أن تكون تعبيرا عن عقد اجتماعي، أي حين تصبح أداة لفئة، أو طغمة، أو عصابة، أو أوليغارشية، وحينما لا تضطلع “الهيئات الوسيطة” بدور الوساطة، وتصبح أعضاء من غير وظيفة، وتصبح متجاوزة من قِبل ما يسمى بالتكنوكراسيا، أي بحكم التقنقراط، آنذاك يمارس المواطنون السياسة بطريقة غير منظمة، أو مهيكلة. يبدأ الأمر من خلال أحاديث المقهى، أو قنوات السوشيل ميديا، لينتقل بعدها إلى الشارع.
الحياة السياسية في إطار الهيئات الوسيطة يطبعها الحوار والمساومة، أو bargaining كما يسميها الأمريكيون، والحياة السياسة غير المهيكلة، تتميز بالحدة والمزايدة ورفض الحلول الوسطى.
من الطبيعي أن تنتقل السياسة من هيئات وسيطة لم تعد وسيطة، إلى قطاع سياسي غير مهيكل، ولكن شريطة أن يكون ذلك مرحليا، ويُستخلص من ذلك العبرة، كي تعود الدولة لوظيفتها الأساسية، أي تعبيرا عن عقد اجتماعي، وتضطلع الهيئات الوسيطة بالوساطة فعليا، وليس أن تكون وسائل للتسلق أو الخطاب الشعبوية.
الأزمة الاجتماعية التي تعرفها بلادنا، والاحتقان التي يعرفه المشهد السياسي، ليس شأن خاصا ببلدنا، بل ظاهرة عالمية، ولكن الحكمة هي أن نسعى لتجاوز هذا الوضع، كي تتم ممارسة السياسة من خلال الهيئات الوسيطة، وتضطلع الدولة بدور الحاضن للعقد الاجتماعي، من خلال الوظائف الكبرى التي حددها هوبز، الأمن، والوئام المدني، (والقضايا الاجتماعية إحدى عناصر الوئام المدني) والرفاه.
للإنجليز مقولة مأثورة وهي أن الرؤية هي أن ترى الأشياء غير المرئية، وهي ذات الحكمة التي يعبر عنها المثل: من لا يبصر من الغربال يكون أعمى. فالطبيعة تأبى الفراغ، وكذا السياسة، و إذا لم تضطلع الهيئات الوسيطة بدورها، تحولت السياسة إلى قطاع غير مهيكل، مع أخطار الغلو والحدة والمزايدة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير