ولدت الطفلة لينا بمدينة طنجة مستهل سنة .2017 لم يكن لها من ذنب وهي تلج هذا العالم سوى أن والدها ووالدتها في لحظة متعة عابرة خارج إطار الزواج، لم يسلكا من سبل الاحتياط والوقاية ما يجنبهما أي تبعات قانونية أو اجتماعية. أنكر الأب أي علاقة له بالطفلة، وقدمت الأم شكايتها للمحكمة الابتدائية مطالبة بإثبات أبوته. أمرت المحكمة بإجراء الخبرة الطبية واختبار الحمض النووي، كانت النتيجة لصالح الأم، وكان حكم المحكمة سابقة ومفاجأة، إذ اعتمدت الهيئة القضائية المواثيق الدولية والاجتهادات الدستورية والفقهية، لتثبت بنوة لينا لأبيها المدعى عليه.
هلل كثير منا لهذا القرار غير المسبوق، واعتبرناه في حينه نقلة نوعية في التعامل مع هذه القضايا، وفتحا مبينا سننقذ به آلاف الأطفال من التشرد والضياع، لكن فرحنا وتفاؤلنا لم يعمرا طويلا، رفع الأب القضية إلى محكمة الاستئناف، فعادت حليمة إلى عادتها القديمة، وجردت لينا من والدها الذي أثبت العلم أنها من مائه وكسبه، وسط ذهول وصدمة من المتتبعين والمتعاطفين.
لم تتوقف الصدمة عند هذا الحد. قبل أيام قليلة، خرجت محكمة النقض، التي تعتبر قراراتها اجتهادات قانونية ملزمة للقضاة، لتحسم الجدل في الموضوع، ولتعتبر أن الطفل الذي يولد خارج إطار الزواج لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بوالده البيولوجي.
اعتمدت المحكمة في قرارها على الفصل 148 من مدونة الأسرة، والذي ينص على أنه لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية، وأوضحت في حيثيات الحكم أنها طبقت قواعد القانون وقواعد الفقه الإسلامي التي لا تلحق “ولد الزنا“ إلا بأمه، واعتبرت أن فحص الحمض النووي لا يتناسب مع الشروط الشرعية التقليدية المحددة لإثبات النسب.
لا أعتقد شخصيا أنه يمكن توجيه اللوم لمحكمة النقض ولا للهيئة القضائية المصدرة للحكم، ما دامت وفية للقوانين القائمة، ورغم أن المادة 158 من المدونة أشارت إلى إمكانية توظيف الخبرة الطبية، لكن ذلك لا يعني اعتماد الحمض النووي والتحليل الجيني، وبالتالي كان قرار محكمتي الاستئناف والنقض متوافقا مع النصوص القانونية.
هي، إذن، مشكلة قانون لا زال ونحن في سنة 2021 يرفض اعتماد العلم ووسائله القطعية لحفظ حقوق الأطفال ومصالحهم الفضلى، تحت ذريعة الوفاء لقوانين فقهية قديمة شرعت يوم كان العالم لا يملك من وسيلة لإثبات النسب إلا الفراش والقيافة، فهل أصابنا العجز والجمود لهذا الحد الذي لا نستطيع به إنقاذ آلاف الأمهات العازبات وأطفالهن من التشرد والضياع، أي فقه وأي منطق هذا في التشريع لا يستجيب لتطورات الحياة ومستجداتها وابتكاراتها العلمية والكونية؟ بل حتى أين نحن من تنزيل قول لله تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عندا لله)؟
قرأت قبل سنوات حوارا للأستاذ أحمد الخمليشي يتحدث فيه عن بعض ما جرى من نقاش حين الإعداد لمدونة الأسرة، وكيف أن الفقهاء التقليديين الذين كانوا باللجنة عارضوا وبشدة التحليل الجيني بحجة أن الفقه الإسلامي لم يتعرض لذكره ولا اعتماده، قبله وزيرة الأسرة والتضامن السابقة بسيمة الحقاوي أنها مع اعتماد الحمض النووي لحفظ حقوق الأطفال وتحميل الآباء مسؤوليتهم المادية والمعنوية، لكن رغبتها لم تتحول إلى واقع رغم موقعها الوزاري بسبب معارضة التقليديين وممانعتهم حسب ما أخبرت به شخصيا من قبل بعض مقربيها وأعوانها، أتساءل ما مصلحة كل هؤلاء في هذا التحجر والجمود؟
حسب الدراسات المنجزة، عام 2019 فإن المغرب يعرف 153 حالة ولادة يوميا خارج مؤسسة الزواج، من يحمي هؤلاء الأطفال وأمهاتهن؟ فالتخلص من الحمل جريمة بالقانون، أيضا، حتى لو كان الجنين مضغة أو علقة لم تتخلق بعد، والنسبة للأب مرفوضة وإن علمنا يقينا هويته، وتلقيب ذلك الطفل بـ“ابن الزنا“ ثقافة دينية واجتماعية، أي مستقبل يرجى للينا وإخوانها وأخواتها بعد كل هذا الهضم والإهمال والتهميش؟
أظن أن الوقت قد حان اليوم لمراجعة المنظومة القانونية بما يتوافق ومنطق الدولة الحديثة، وبما يحقق الانسجام مع ما التزم به المغرب من مواثيق دولية ومعاهدات أممية، بل بما يستجيب لمقتضيات الدستور الجديد، أما الأحكام الفقهية التقليدية، والقراءات المحافظة، فمآلها التجاوز عاجلا أو آجلا، وليس من سبيل إلا فتح أبواب الاجتهاد، للاستفادة من منجزات العلم، وتقديم حلول واقعية لإشكاليات المجتمع، حتى لا نحرم لينا وآلاف من أمثالها من أب يعرفونه ويستحقونه.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي